هذه المواقف أتت بعد تحليق لابيد فوق «كاريش» برفقة رئيس هيئة الأمن القومي إيال حولاتا المسؤول – ضمن أمور أخرى – عن تقديم «تقدير الوضع» مع مروحة خيارات أمام المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية. مع ذلك، ليس واضحاً إذا كان هذا التكتيك يعود إلى أن مؤسسات التقدير والقرار الإسرائيلية أسيرة قوالب أسهمت في توسيع «المساحة العمياء» في أي تقدير، وفي ضوء ذلك، فإنها مقتنعة فعلاً بأن تهويلها يمكن أن يدفع حزب الله إلى التراجع، أم أنها نتيجة قرار برفض تلبية الحد الأدنى لمطالب لبنان، أم أنها جزء من عملية تضليل سياسي مدروس في الخطاب العلني للتأثير في جهات القرار في حزب الله، كمحاولة أخيرة في هذا الاتجاه.
أياً يكن الأمر، المؤكد أن هذه المواقف أتت بعد عمليات تقدير ومشاورات مكثفة للمؤسستين السياسية والأمنية بعد الكلمة الأخيرة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في 13 الجاري. والأكثر وضوحاً أنه بدل أن تشكل المواقف التي أطلقها الثنائي لابيد – غانتس عامل ضغط على الحزب، فإنها وجَّهت، من حيث لا يشعران، رسالة ضعف، وأظهرت إرباك المؤسسة الرسمية بشقيها السياسي والأمني وضيق خياراتها. إذ إن كلام لابيد عن أن غاز «كاريش» يشكّل فرصة كامنة لأوروبا، يؤكد صحة ما أعلنه السيد نصرالله حول الفرصة التاريخية التي تشكلت بفعل الحرب في أوكرانيا، وأن تصميمه على تحقيق هدفه المعلن سيضع إسرائيل، ومعها العالم الغربي بأسره، أمام خيارات كلها خطيرة على الأمن القومي الإسرائيلي والاقتصاد الأوروبي.
وليس أقل أهمية في خلفيات تصميم المقاومة، أن البديل أمام لبنان عن خيار رفع مستوى الضغوط على إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها، هو الاستمرار في الانهيار وصولاً إلى سيناريوهات أكثر خطورة من نتائج أي حرب. بالتالي، فإن انتزاع لبنان حقوقه في الثروات الغازية والنفطية يشكل مسار الإنقاذ الوحيد لحاضر لبنان ومستقبله.
بالتزامن والتكامل مع سياسة التحريض الدولي، أطلق لابيد مع وزير أمنه بني غانتس مروحة تهديدات خلال جولة مشتركة على الحدود الشمالية مع جنوب لبنان برفقة قادة عسكريين. واللافت فيها أنها تأتي في ذروة حملة انتخابية يتنافس فيها الطرفان على تعزيز صورتهما كمرشحين منافسين لبنيامين نتنياهو على رئاسة الحكومة. لذلك، فإن الزيارة المشتركة تهدف إلى توجيه رسالة مفادها أن «القيادة الإسرائيلية موحدة»، وأيضاً بهدف إخراج هذه القضية من ساحة التنافس الداخلي تفادياً لتحولها إلى قضية رأي عام في ضوء خطورتها وحساسيتها، خصوصاً أن هذا الملف سيأخذ منحى مفصلياً، إما في اتجاه الحل أو المواجهة بشكل أو بآخر، قبل موعد الانتخابات العامة مطلع تشرين الثاني المقبل.
في المقابل، إذا ما كان قادة العدو يترقبون نتائج هذه المواقف ومدى تأثيرها في خيارات حزب الله، فإن مواقف أمينه العام، أول من أمس، والتي شدد فيها على أن حزب الله ماضٍ في طريق سيؤدي إلى استخراج الغاز والنفط مع أو من دون مواجهة عسكرية، تبدّد أي أوهام تراود جهات التقدير والقرار في كيان العدو، والتي عادة ما تنقسم حول القضايا المحفوفة بالمخاطر.
مع ذلك، يبدو أيضاً أن التهديدات الإسرائيلية هي تمهيد لأجوبة سينقلها الجانب الأميركي إلى لبنان، ويريد أن يرفقها الإسرائيلي برسائل ضغط علنية، من دون إغفال حاجة إسرائيل للحفاظ على قدر من التوازن في الصورة والمشهد الميداني في مقابل رسائل حزب الله ومواقفه.
المعطى الإضافي الذي يؤكد حالة الإرباك والمردوعية المحفورة في وعي قادة العدو، ما كشفته تقارير إعلامية إسرائيلية عما طُرح في مداولات مغلقة في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن البحث في إمكانية نقل منصة «كاريش» من موقعها الحالي، الأمر الذي يتطلب إجراءات لوجستية معقدة. والأهم في دلالات هذا الطرح هو التسليم بعدم إمكانية ردع حزب الله عن هذا الخيار، ما يدفع إلى التفكير في خيارات بديلة عبر تحييد المنصة التي سيؤخر استهدافها وتدميرها عملية استخراج الغاز لسنوات، وما يشكّل أيضاً إقراراً بعجز المنظومة الاعتراضية والدفاعية عن حمايتها في مواجهة قدرات حزب الله الصاروخية والمسيّرات!
بالتوازي مع ما تقدم، يهدف الكشف المتعمّد عن هذه المعطيات إلى القول أيضاً إن إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، ليستا في وارد السماح للبنان بالحصول على حقوقه، وأنهما على استعداد للمواجهة… لكن، تبقى هذه الرسائل، حتى الآن، جزءاً من الضغوط النفسية ومحاولة إيجاد قدر من التوازن في الضغوط، ومحاولة لاستنفاد كل الخيارات البديلة قبل بلوغ المحطة الحاسمة.
استكمالاً لسياستها الرسمية السياسية والإعلامية، واصل قادة العدو، كلٌ وفق تعابيره الخاصة، محاولة تقديم إسرائيل كما لو أنها في موقع المدافع عن «حقوقه» وأن الآخرين هم في موقع المعتدي، والتأكيد أن «إسرائيل تريد أن يكون لبنان جاراً مستقراً ومزدهراً»، تماماً كما هو الخطاب الرسمي الإسرائيلي تجاه قطاع غزة المحاصر منذ نحو 17 عاماً. لكن، عند الدخول في تفاصيل الشروط والقيود التي يحاول الطرفان الأميركي والإسرائيلي فرضها على لبنان، يتبين بأن هذه المواقف ليست إلا جزءاً من عملية التغطية على سياسة تتمحور حول محاولة إخضاع الطرف المقابل والتنازل عن عناصر قوته وحقوقه، ومحاولة لقلب الصورة عبر تصوير المقاومة كما لو أنها مشكلة للبنان في سياق محاولات تطويق أحد أهم عناصر قوة لبنان.
في الخلاصة، الواضح أن إسرائيل تخشى من فشل محاولاتها السطو على ثروات لبنان وتكريس ذلك على المستوى العملي. كما تخشى تل أبيب، ومعها الولايات المتحدة، من تحرر لبنان، اقتصادياً وسياسياً وما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج وتداعيات. وتتعاظم المخاطر، من منظور إسرائيلي، أن شق الطريق إلى إنقاذ لبنان سيتم عبر المقاومة. وليس من المبالغة القول إنهما تخشيان من أن يشكل ذلك الضربة القاضية لخطط تقويض صورة المقاومة ويعزّز الالتفاف الشعبي حولها، خصوصاً أن السيناريوهات أصبحت محصورة في اتجاه واحد: حصول لبنان على حقوقه مع أو من دون مواجهة عسكرية قد تكون موضعيةـ وقد تتدحرج بمستويات متفاوتة، على الأقل على المستوى النظري.