لم يبق من القصة سوى صورة تجمع العمال (علي حشيشو)
منذ سنوات، تُقحم عدلون في معرض الحديث عن ثروة لبنان النفطية الضائعة في البرّ والبحر. لكن البلدة الزراعية الساحلية الواقعة بين صيدا وصور، كانت قد شهدت بالفعل تضييع فرصة استخراج النفط من أراضيها في بداية ستينيات القرن الماضي
العرض الألماني
من دون سابق إنذار، حضر إلى عدلون عام 1960 شركة تدعى «بوشر وكفوري»، تشكل شراكة بين ألمان من عائلة بوشر ومتعهد لبناني من آل كفوري. لم يكن للبلدة الزراعية بلدية أو كيان منتظم، كما لم يكن لها طريق أو شبكة كهرباء. لكن الألمان كانوا قد أعدّوا دراسة وافية عنها واصطحبوا خرائط ودراسات أشارت إلى احتمال وجود نفط في أحد المواقع. قصد الفريق منزل خليل علامة مباشرة من دون مساعدة محلية وعرضوا على عائلته استئجار المنزل والأرض بغرض التنقيب عن النفط. أبرزوا ورقة اتفاق مع وزارة الموارد المائية والكهربائية. بحسب نجله حسين، وافق جده وأعمامه على العرض الألماني لكي يستفيد أبناء شقيقهم عبود المتوفي مادياً. فيما تماهى الأهالي مع حكايات الثراء الآتية من الخليج عبر أبناء المنطقة الذين سافروا للعمل، بعد الطفرة النفطية هناك.
مع إتمام الاستئجار، طوّق الفريق المنزل ومحيطه بإحكام للبدء بالحفر، ومنعوا أياً كان من الدخول حتى المالكين. «كلّ شيء حولهم كان يدعو إلى الاستهجان بالنسبة إلى قرية صغيرة نائية» يقول عبدالله ابراهيم. «شغّلوا مولّدات الكهرباء ورفعوا أعمدة الإنارة الضخمة برقعة ضوء واسعة في وقت لم تكن فيه الكهرباء قد وصلت بعد إلى البلدة، وجرّوا المياه بمضخات من مشروع الليطاني الذي يمرّ في البلدة. وارتفعت أعمدة الحفر والقواعد الخرسانية في مقابل بيوت البلدة المبنية بالحجر، وبأسقف ترابية» بحسب إبراهيم. لكن ما أثار الاستغراب أكثر هو ّ«التكتّم الذي أحاط بعملهم وعدم اختلاطهم بالأهالي».
حسين علامة كان في الثانية عشرة من عمره عندما استأجر الألمان منزلهم. «كان المنزل الوحيد المبني من الإسمنت. سكن رئيس المشروع وزوجته ووالدتها في بيتنا مقابل 400 ليرة شهرياً. هذا المبلغ الذي حصلنا عليه طوال ثلاث سنوات لم يكن الثروة الوحيدة التي جنيناها. بعد مغادرتهم، فوجئنا بتقديمهم أول طلب تركيب ساعة كهرباء لمنزلنا باسم بوشر وكفوري، لكنهم غادروا قبل أن تركب». في المقابل، لم يحظ حسين وعائلته كمالكين للأرض، بأي امتيازات. «لم نعلم نتائج الحفر ولم يسمح لنا بدخول الموقع المشرّط بالأسلاك أو التحدّث إلى المهندسين والتقنيين الأجانب».
عمّال لسنة ونصف السنة
استعانت الشركة المنقبة بحوالى عشرين عاملاً من عدلون. آخر العمال الذي لا زال على قيد الحياة محمد عبود الذي كان في السادسة عشر من عمره عندما انضمّ إلى الورشة كأجير يومي ينقل البضائع. لا يغيب من باله ضخامة الأشغال التي لم يرها سابقاً. «ثلاثة أعمدة بارتفاع ثلاثين متراً، بقواعد خرسانية ضخمة، حملت آلة الحفر الهيدروليك فوق حفرة بمحيط 4 إلى 5 أمتار وبعمق حوالى ألفين وخمسمئة متر. كان تسرّب المياه يشكّل عائقاً أمام الحفر، ما استدعى تلبيس جدران البئر بحواجز كلّما وصلوا إلى عمق معين».
يتذكر عبود أنه كان يتقاضى يومياً ست ليرات، في حين كانت أجرة العامل في المنطقة لا تتعدى الليرتين. «كانت مهمتي وعمال عدلون نقل المعدّات وأكياس الباطون. وكان الوسيط بيننا وبين المهندسين شخص ينادونه بمسيو عبود». لعام ونصف العام فقط، استعين بعمال عدلون، قبل أن يُصرفوا ويقتصر العمل على مجموعة من الأرمن.
لم تطل أحلام الثروة التي دغدغت أحلام العدولنيين. من دون سابق إنذار أيضاً، فوجئ الأهالي بمغادرة فريق التنقيب بعد فكفكة المعدات وإخلاء المنزل وأماكن سكن العمال. لم يحملوا من تلك التجربة دليلاً ملموساً سوى صورة وحيدة تجمع العمال العدلونيين الذين عملوا في المشروع.
بحيرة نفط؟
بعد مغادرتهم، صار بإمكان الأهالي تفقد الموقع. «كنا أطفالاً نلهو في بستان الشكاير على القواعد الإسمنتية الضخمة. وفي إحدى المرات، غطست قدماي في بحيرة المياه اللزجة التي كانت تميل إلى السواد ولها رائحة تشبه المواد النفطية وكنت سأغرق فيها لولا أن انتشلني أصدقائي» يقول إبراهيم عبود.
لم يعد أي من معالم موقع الحفر موجودة اليوم، وعلى الرغم من تحديد الرقعة التي كان يحتلها لم يستطع أي من الشهود تحديد نقطة البئر تماماً بسبب تغيّر معالم الأرض واستصلاحها من قبل المالكين. لكن أمل العدلونيين لم ينقطع بثروات أرضهم. معمر عبود علامة، أحد ورثة أصحاب الأرض، تحدّث عن «حق العدلونيين بمعرفة حقيقة ما جرى. لماذا نقحم في الخريطة النفطية قولاً لا فعلاً. ولماذا لم تستقدم الدولة فريقاً متخصّصاً يقوم بمسح جدي وفعال للبئر؟».