لم تكن زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الى المنطقة عادية في ظروفها الدولية والإقليمية وتوقيتها… فأميركا لم تعد أميركا التي نعرفها و”اسرائيل” لم تعد “اسرائيل”.. فمعالم التغيير في العالم بدأت لغير صالح أميركا، لذا نرى وكأنها تحاول لملمة عوامل قوّتها وتثبيت سيطرتها على كل من يدور في فلكها، بعدما بدأت ملامح التشتت باتجاهاتها ولو جزئياً ببعض القضايا المُلحة في العالم.

لم يكن خافٍيا على أحد أهداف زيارة بايدن للمنطقة، فأمن “اسرائيل” التزام أميركي لا تُبدّله الظروف ولا يُغيّره تغيّر الرؤساء، وأمن الخليج كان لا بدّ من التأكيد عليه لتبقى يد أميركا العُليا فيه، ولا تذهب هذه الدول باتجاه روسيا والصين ولو جزئياً، حفاظاً على قوة أميركا و”الناتو”، لذا تنازل بايدن لولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن مبدأ حقوق الإنسان الذي تدعيه الولايات المتحدة أمام الرأي العام الأميركي، من أجل الحاجة الأميركية للنفط الخليجي وتحسين أوضاع الطاقة العالمي، فكان التجاوب السعودي بزيادة “الطاقة المستدامة القصوى” من النفط الخام إلى أكثر من 13 مليون برميل في اليوم.

أما فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، فجاء الرئيس الأميركي ليقول لـ “الإسرائيلي” والسعودي إن الإتفاق هو ضمانة لأمنهما، في وقت يَعتبر مراقبون أن الإيراني لم يعد متحمساً للإتفاق، لأن استمراره بالتخصيب بنسبة ٦٠ بالمئة يُحقق له أرباحاً على صعيد الطاقة أكثر من الأرباح برفع جزء من العقوبات الأميركية عليه.

أما هدف تشكيل “ناتو عربي” رسمي، وإن كان موجوداً الى حد ما بطريقة غير رسمية، فشل الأميركي بتحقيقه حتى اضطر الأمر بوزير الخارجية السعودي للقول إنه “ليس ثمة ما يُعرف بالناتو العربي، ولا أعرف من أين أتى هذا المسمى، والأمر لم يُطرح في القمة”، بل أكثر من ذلك كان هناك لهجة جديدة في التعاطي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث قال الوزير نفسه إن “الحلول الديبلوماسية هي الطريق المفضّل والوحيد للتعامل مع إيران”، كما رحّب بيان قمة جدة بالدور الإيجابي الذي يقوم به العراق لتسهيل التواصل وبناء الثقة بين دول المنطقة.

أما لبنان وبعد كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، والذي عكّر صفو الزيارة الأميركية، بعدما وضعهم أمام خيارين إما الحرب وإما أن يأخذ لبنان حقه بالنفط والغاز ويرفعون الحصار، يعتبر مراقبون أن للأميركي و”الاسرائيلي” والسعودي خيارا واحدا فقط، خاصة بعد فشلهم بتحقيق أهدافهم في لبنان وعدم حصولهم على أي مكسب، ألا وهو تخفيف حدة التعاطي معه، والرضوخ للأمر الواقع باعتبار حزب الله قوة حقيقية مضطرون للتعامل معها بالسياسة. لذا سيُسرّع بالاتفاق حول موضوع الترسيم حتى لو حصل مماطلة بالحفر والتنفيذ، ما يعني أن الأميركي، ومن يدور في فلكه، لم يعد لديهم القدرة على تجاهل حضور ايران وحزب الله في المنطقة مما يُقدِّم العمل السياسي والديبلوماسي على العمل العسكري.

صحيح أن احتمالات الحرب العسكرية تتراجع بالوقائع والظروف، لكن في الوقت نفسه نحن في أيام حرب من نوع آخر، وصراع عنوانه السيطرة على أوراسيا، حيث أن مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي قال عام ٢٠١٢ إن مَن يُسيطر على أوراسيا يُسيطر على العالم.

واليوم المنطقة تودّع رئيسا وتستقبل رئيسا في سياق السيطرة عليها، في أيام لم يعد يختلف عليها أحد أنها أيام تسبق ولادة عالم جديد..