إذاً، ليس بإمكان إسرائيل إلّا أن تقف في صفّ المعسكر الغربي ضدّ روسيا، مع استعار الحرب معها، وما سينجم عنها من تداعيات على موازين القوى الدولية الإجمالية. تتضافر هذه الحرب، مع ارتفاع حدّة تلك الهجينة بين الكيان ومحور المقاومة، وسعيه إلى الحصول على دعم أميركي وغربي أكبر نتيجة لها، وهو ما عبّر عنه «إعلان القدس» الذي وقّعه بايدن ولابيد، وتعهَّد الأوّل بموجبه بمساندة إسرائيل ضدّ إيران. هذا التضافر هو عامل إضافي سيدفع إسرائيل إلى الانضمام علناً إلى المعسكر المذكور. ولا شكّ في أن روسيا، التي وجّهت أكثر من رسالة تحذيرية إلى إسرائيل في الآونة الأخيرة، وبينها منْع أنشطة «الوكالة اليهودية» على أراضيها، وما تحدّث عنه رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي عن عزمها على شراء مئات المسيّرات الإيرانية، مدركة في الواقع للاعتبارات التي تَحكم مواقف طهران، وهي ستتعامل معها بناءً عليها وعلى أولويّاتها الاستراتيجية الراهنة، التي تفرض الانتقال إلى مستوى أعلى من الشراكة مع إيران. مجيء بوتين إلى طهران بضعة أيّام بعد قدوم بايدن إلى المنطقة، وما سبقه من كلام عن إقامة أحلاف بقيادة الولايات المتحدة، بمعزل عن النتائج، هو أمر بالغ الدلالة على المستويَين السياسي والرمزي.
مفاعيل السياق الدولي والإقليمي الراهن على مسار العلاقات الروسية – الإسرائيلية تشبه إلى حدٍّ كبير تلك التي حكمت تطوّر العلاقات السوفياتية – الإسرائيلية في بداية خمسينيات القرن الماضي، على رغم الاختلافات والتمايزات بين روسيا اليوم والاتحاد السوفياتي السابق، وخصوصيات كلّ مرحلة من هذه المراحل التاريخية. لا يمكن فصْل تدهور العلاقات السوفياتية – الإسرائيلية عن بداية الحرب الباردة وانحياز إسرائيل إلى المعسكر الغربي، على الرغم من الدعم الكبير السياسي والعسكري الذي قدّمه السوفيات لها في حرب 1948، من جهة، وصعود حركة التحرُّر الوطني العربية بقيادة مصر الناصرية في بداية الخمسينيات في مواجهة الاستعمار الغربي، من جهة أخرى. وللالتفاف على استراتيجية الاحتواء المعتمَدة في حقّه من قِبَل المعسكر الغربي، والتي كانت أوروبا إحدى ساحاتها الرئيسة، قرّر الاتحاد السوفياتي التحالف مع حركات التحرّر في بلدان الجنوب، وبينها بلدان العالم العربي. وترتّبت على هذا التحالف مساندة موسكو للدول العربية ضدّ العدوان الصهيوني، المدعوم من القوى الغربية.
استمرّت استراتيجية الاحتواء بحقّ روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتجلّت من خلال الإصرار على توسيع حلف «الناتو» شرقاً على دفعات، وصولاً إلى حدودها. حرب أوكرانيا الراهنة هي نتاج مباشر لهذه الاستراتيجية. شهدت الظروف الدولية تغييرات بنيوية عميقة بين المرحلتَين المشار إليهما، قد يكون أهمّها تراجع الهيمنة الغربية السياسية والعسكرية والاقتصادية على العالم، وبروز أقطاب غير غربيين منافسين لها. غير أن ما لم يتغيّر جوهريّاً، بل ازداد رسوخاً وقوّة، هو علاقة إسرائيل بالمعسكر الغربي. انتقلت هذه العلاقة من مرحلة التحالف بين قوى إمبريالية مسيطرة، وقلعة عسكرية رديفة لها، وهي الكيان الصهيوني، إلى مرحلة الترابط العضوي السياسي والعسكري والاقتصادي والعلمي – التكنولوجي، المستند إلى التماهي الثقافي – الأيديولوجي بين قسم عريض من النُخب السياسية الغربية، الحاكمة والمعارضة، مع إسرائيل والحركة الصهيونية. وقد أدّى هذا الأمر في العقود الثلاثة الماضية إلى تعاظم نفوذ وتأثير اللوبيات الصهيونية، التي تضمّ ائتلافاً من القوى اليهودية وغير اليهودية، في داخل المؤسسات السياسية والعسكرية والإعلامية الغربية وتحوّلها من كونها جماعات ضغط إلى مكوّن داخلي من مكوّنات النظام الغربي السائد. تفاخُر الرئيس الأميركي بصهيونيته، على سبيل المثال لا الحصر، في بداية زيارة للمنطقة وليس إلى الكيان وحده، حتى ولو كان مدفوعاً، من بين اعتبارات أخرى، إضافة إلى قناعاته طبعاً، بحسابات انتخابية أميركية داخلية، يعكس إدراكه لقوّة المكوّن الصهيوني في داخل النظام الأميركي. إصرار ماكرون على مساواة مناهضة الصهيونية باللاسامية واعترافه، في الخطاب الذي ألقاه نيابةً عنه رئيس الوزراء الفرنسي السابق، قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بالقدس عاصمة لإسرائيل، يعكسان قناعة وإدراكاً مشابهَين. الطبيعة العضوية للتحالف الإسرائيلي – الغربي ستفرض على روسيا التخلّي عن رهانها على كسْب ودّ إسرائيل، كما فعل الاتحاد السوفياتي في بداية الصراع العربي – الصهيوني، والانتقال إلى التحالف مع مَن تتقاطع معه مصالحها فعلياً في التصدّي لسياسات الهيمنة الغربية، وهو في منطقتنا محور المقاومة.