يحاول إردوغان الظهور بأنه يمكن أن يكون جزءاً من معادلة المحاور الإقليمية مع كلّ من روسيا وإيران (أ ف ب)
سيكون المشهد خادعاً، اليوم، عندما تُوضع قمّة طهران في مقابل قِمَم جدة. لا شكّ في أن جولة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي شملت كلّاً من إسرائيل والسعودية، أضافت جرحاً آخر أثخن القضيّة الفلسطينية، من خلال توسيع التطبيع ليشمل، بصورة أكثر علانية، المملكة السعودية، القوّة الأكبر والأبرز في العالم العربي. بخلاف ما تَقدّم، فإن النتائج – المعلَنة على الأقلّ – لا تتيح الذهاب بعيداً في التوقّعات. وعلى هذا، يمكن القول إن قمّة طهران، بما هي التقاء القوّتَين المعاديتَين للسياسات الغربية: إيران وروسيا، لن تجترح أكثر من محاولة تحصين محور المقاومة ومنع اختراقه، فيما تبقى تركيا ذلك اللاعب الذي لا يزال يبحث عن دور لم يجده حتى الآن، وهو ما يضيف غموضاً أكبر إلى مستقبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي لم يَجد قَدَماً ثابتة في المعسكر الغربي، ولا واحدةً موثوقاً بها في المعسكر الشرقي. كان يمكن لنتائج قمّة طهران المتوقّعة، أن تكون مختلفة لولا النتائج المتواضعة لجولة بايدن، الذي لم يكن محقّاً عندما قال إن الولايات المتحدة تخلّت عن «الخطأ» الذي قام به دونالد ترامب بترك الشرق الأوسط والذهاب مباشرةً إلى مواجهة مع الصين في شرق آسيا؛ فواشنطن لم ولن تترك (بشكل كامل ونهائي) أهمّ منطقة حيوية لها في العالم، حيث إسرائيل ومنابع النفط والغاز الطبيعي والممرّات الاستراتيجية الحيوية. كما لم يأتِ بايدن إلى المنطقة، إلّا بعد أكثر من سنة ونصف سنة على وصوله إلى البيت الأبيض، وهذه مدّة طويلة جداً وغير معتادة لرئيس أميركي. ولولا الحرب في أوكرانيا وظهور أزمة طاقة على مستوى العالم، لَمَا أقدم الرجل على تلك الخطوة في التوقيت الحالي.
على أيّ حال، لم يجد الرئيس الأميركي مبتغاه بعد حصول أزمة الطاقة. حتى إن وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، أرسلا إشارات علنيّة حول الحرص على مواصلة العلاقات الجيّدة مع روسيا وعدم الاصطفاف ضدّها. كلّ هذا سرّع زيارة بايدن والانقلاب على جميع مواقفه السابقة بإبقاء السعودية بلداً منبوذاً على خلفيّة قضية جمال خاشقجي. ولم تأتِ قرارات قِمَم السعودية، حادّة تجاه إيران، فيما التهويل بحربٍ من هنا أو هناك كان مبالَغاً فيه وغير واقعيّ. فالاتفاق النووي بين طهران وواشنطن كان ناجزاً يَنتظر التوقيع، لو لم تنفجر الحرب الأوكرانية، ولو لم تُبدِ موسكو رغبةً في عدم منْح واشنطن صكّ براءة الاتفاق، حتى لا تقوّي موقف الولايات المتحدة المعادي لروسيا، ولا تَظهر الأخيرة كما لو أنها وحيدة في حربها مع الغرب. لذا، لم تكن الغاية من زيارة بايدن، التحريض على إيران، بل إن مواقف الدول الخليجية تجاه الجمهورية الإسلامية جاءت معتدلة ومرنة، إذ دعت السعودية على لسان وليّ عهدها، ووزير خارجيتها فيصل بن فرحان، إلى التفاوض مع «الدولة الجارة»، وهو ما لطالما مثّل مطلباً إيرانياً بحتاً. كما لم تَصدر عن المجتمعين أيّ إشارة إلى التهديد باستخدام القوّة لفرض شروط الاتفاق النووي. أمّا موقف المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، فكان أكثر وضوحاً لجهة تعيين سفير إماراتي لدى إيران، ورفض أبو ظبي الدخول في أيّ حلفٍ ضدّ طهران. وإذا أضيفت إلى ما تَقدّم المواقف المعتدلة الأخرى لسلطنة عُمان والكويت وقطر، فليس مِن معنى للحديث عن أيّ حلف مُواجه لإيران. ويبقى أن إسرائيل أعجز مِن أن تَشنّ حرباً بمفردها ضدّ الأخيرة، خصوصاً أنها أمام انتخابات نيابية قريبة تمنع عليها الإقدام على مغامرة غير مضمونة النتائج. ويكفي كيانَ الاحتلال، في هذه المرحلة، أن يحصل على أوّل خطوة تطبيع سعودية علنيّة، ليعتبر أنه كسب جولةً في الصراع مع العرب، وتفكيك جبهتهم المنحلّة أصلاً.
تبقى المسألة واضحة جداً؛ لم يذهب بايدن إلى السعودية إلّا لأنّ عينه على تداعيات الحرب مع روسيا على الصعيد الاقتصادي، ولا سيما الطاقة. ولا يمكن القول إن الرئيس الأميركي حصل على مراده بالكامل. فزيادة الإنتاج السعودي ليست حتى قرب الحدّ الأقصى، وسيُعمل بها لمدّة شهرين، وقد تكون قابلة للتمديد. لكن كمّيات الإنتاج الإضافية لا يمكن أن تغطّي النقص اللاحق في الاقتصادات الأوروبية، وخصوصاً مع اقتراب وصول فصلَي الخريف والشتاء. في المعادلة العلنية، ربح ابن سلمان جولة ضدّ بايدن الذي تراجَع عن وعده بعدم الاجتماع به منفرداً، بل إنه عقد معه الاجتماع الرسمي الرئيس. كما ربح وليّ العهد اعتراف الرئيس الأميركي به ملكاً مستقبليّاً، فيما كسب الأخير بعضاً ممَّا كان يأمل فيه. ويمكن القول إن الظروف الحالية على الصعيد الإقليمي، تميل أكثر من أيّ وقت مضى، إلى مرحلة من «استراحة محارب» قد تمتدّ لأشهر طويلة.
إزاء ما تقدَّم، يبدو أن قمّة طهران قد انتهت قبل أن تبدأ، بعدما أريدَ لها أن تكون المقابل لقِمم بايدن، عن طريق مواجهة القرار بالقرار والاستعداد بالاستعداد والتهويل بالتهويل والرسالة الإيجابية بالرسالة الإيجابية. مع ذلك، يجب انتظار تصريحات الرئيسَين إبراهيم رئيسي، وفلاديمير بوتين، لمعرفة المدى الذي سيذهبان إليه، مع التوقّع بأنهما سيؤكدان حقّ الدفاع عن النفس من دون الإقدام على أيّ مغامرة مجانية. أمّا مشاركة الرئيس التركي في القمّة، فهي لزوم «عدّة الشغل» الإردوغانية، بعدما لم تُعطه قمّة مدريد الأطلسية ما كان يأمل فيه من موافقة أميركية على عملية عسكرية تركية في شمال سوريا، أو حتى الموافقة على إقامة «مناطق آمنة» للاجئين السوريين في تلك المناطق، فضلاً عن استمرار الخلاف التركي – الأميركي على احتضان واشنطن لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية. كلّ هذا خلق لدى إردوغان إحباطاً يحاول أن يعوّضه من خلال الظهور بأنه يمكن أن يكون جزءاً من معادلة المحاور الإقليمية مع كلّ من روسيا وإيران، ومن خلال السعي للحصول على ضوء أخضر كلّي أو جزئي من الأخيرتَين للقيام بعملية عسكرية – ولو محدودة – في بعض الشمال السوري، حيث لا توجد قوات أميركية ولا روسية.
ويبدو إردوغان بحاجة إلى مثل هذه العمليات من وقت إلى آخر لتحصين وضعه كـ«بطل قومي»، خصوصاً عشيّة الانتخابات الرئاسية في حزيران 2023 التي لا تزال استطلاعات الرأي تُظهر أنها لن تكون في مصلحته. وسيحاول الرئيس التركي استحصال شيء ما في سوريا، كما الحصول على كمّيات من النفط والغاز الطبيعي من إيران وروسيا بأسعار مقبولة تخفّف من ارتفاع الأسعار الجنوني في تركيا على الشعب الذي وضعته دراسات غربية على أنه الشعب الثاني (لبنان أوّلاً) الأكثر غضباً في العالم. ولا يبدو إردوغان معنيّاً بأيّ قضيّة أخرى، مهما علا شأنها، خلا تأثيرها من عدمه على معركته الرئاسية، وهو ما فرض عليه المصالحات غير المثمرة حتى الآن، مع إسرائيل والسعودية والإمارات. وفي المقابل، لا يبدو أن إيران وروسيا تميلان إلى وصول رئيس جديد آخر غير إردوغان، إلى السلطة. ومن هنا، ربّما ينجح الأخير، ولو بعد حين، في الحصول على بعض المكاسب من «مسار أستانا» الثلاثي، الذي أثبت أن بياناته المشدِّدة على وحدة الأراضي السورية، ليست سوى حبر على ورق. وإذا كان مقدَّراً لهذا المسار أن يخرج بالفعل من إخفاقاته، وأن يتواصل، فإن إضافة الحكومة السورية كطرف رابع فيه، هي خطوة لا مناص منها.