ٍَالرئيسيةتحقيقات - ملفات

الردع النووي في عصر الأزمة متعددة التكتلات

 

الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ حوالي أربعة أشهر هي أشد وأخطر أزمة عالمية منذ أزمة الصواريخ الكوبية قبل حوالي ستة عقود، في الوقت الحالي يبدو أن كلا الجانبين غير قادرين على التوصل إلى حسم ويستعدان لحرب استنزاف طويلة ودموية، ووفقاً للأمين العام لحلف الناتو “ستولتنبرغ”، هي مواجهة قد تستمر لسنوات والتي ستؤدي إلى تصعيد  صراع القوى وتعميق الأزمة الاقتصادية.

أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تسريع العمليات التي حدثت في النظام العالمي في السنوات الأخيرة، وفي وقت مبكر التحدي من جانب روسيا والصين للهيمنة الأمريكية وتدخلها المتزايد في المناطق القريبة من أراضيها، وأعطى الرئيس بوتين لهذا تعبيراً إضافياً في الأيام الأخيرة عندما قارن نفسه ب”بطرس الأكبر” وأعلن نهاية عصر العالم أحادي القطب.

وفي الواقع، يبدو أن النظام العالمي في خضم عملية تشكل نظام عالمي جديد، ينطوي على تأثيرات بعيدة المدى على مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك زيادة التنافس بين التكتلات، وتغيير في البنية الأمنية السياسية الأوروبية من خلال زيادة الاستثمار في بناء القوة العسكرية وتسريع عمليات التسلح، والاستعداد لاستخدام الوسائل العسكرية والقوية لتحقيق أهداف سياسية، وعدم القدرة على التعاون في التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية، وزعزعة في قدرة الأنظمة النووية على الصمود، ويبدو أن نتائج المعركة في أوكرانيا سيكون لها تأثيرات على طابع وخصائص النظام الجديد الذي سيتشكل لسنوات عديدة قادمة، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي.

التنافس بين الكتل – الولايات المتحدة الأمريكية مقابل الصين 

قال وزير الخارجية الأمريكي “بلينكين”: “الصين هي الدولة الوحيدة التي تعتزم إعادة تشكيل النظام الدولي، وأيضاً أكثر فأكثر، هي من لديها القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك”.

لقد سلطت الحرب في أوكرانيا الضوء على تعميق التنافس، وتشكل كتلتين ذات وجهات نظر ومفاهيم وقيم متعارضة – الكتلة الغربية الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة، وكتلة الأنظمة التي تتبنى القوة والتي تقودها الصين وروسيا، وهكذا من ناحية شكلت الولايات المتحدة تحالفاً واسعاً وعالمياً من الدول الديمقراطية ضد روسيا، ونجحت في إحياء أهمية “حلف الناتو” -الذي عرَّفه الرئيس ماكرون سابقاً بأنه يعاني من “الموت السريري”- وتعمل على تقوية تحالفات عسكرية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.

ومن ناحية أخرى يقف المحور الروسي الصيني الذي يحظى بدعم دول أخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، ويمكن ملاحظة ذلك في المؤتمر الافتراضي القادم (23 يونيو) لقادة دول الـــ “BRICS” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، وفي تصريحات الرئيس الصيني “شاي” في مؤتمر “سانت بطرسبرغ” الاقتصادي حول تعميق العلاقات الاقتصادية مع روسيا، قدر حجم التعاون المشترك بين الدولتين في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022 بنحو 65.8 مليار دولار، بزيادة قدرها 28.9٪ عن نفس الفترة من العام الماضي).

ومع ذلك، من الواضح أنه إذا كان بوتين حتى وقت غزو أوكرانيا كان يأمل في تشكيل محور استراتيجي مع الصين بين بلدين لهما نفس المكانة -شراكة “غير محدودة”- فيبدو أنه وفي ظل العزلة السياسية والاقتصادية المفروضة على موسكو، ستصبح روسيا بمرور الوقت الشريك الأصغر في المحور مع بكين، نظراً لاعتمادها المتزايد على المظلة السياسية والاقتصادية الصينية، وستستمر الأخيرة بدورها في تقديم الدعم لروسيا نظراً لإدراكها بأن هزيمة روسيا يمكن أن تنعكس أيضاً بشكل مباشر على مكانة الصين في الساحة العالمية وتسمح للولايات المتحدة بإعادة تركيز الجهود في الساحة الآسيوية.

زعزعة الأنظمة النووية

قال الرئيس كينيدي –رئيس أمريكي سابق-: “القوى النووية بحاجة إلى تجنب الصراعات التي قد تؤدي إلى الاختيار بين الانسحاب المهين وبين الحرب النووية.

إن التصدعات التي بدأت في الظهور في الأنظمة النووية في السنوات الأخيرة اتسعت في الأشهر الأخيرة إلى حد كبير نتيجة للتطورات في الحرب في أوكرانيا، وقدرت رئيسة جهاز الاستخبارات الوطنية الأمريكية “أفريل هاينز”، خلال جلسة إحاطة في مجلس الشيوخ (10 مايو) أن بوتين يمكنه استخدام ترسانته النووية إذا شعر أن هناك تهديداً ملموساً على روسيا أو النظام، وتعكس هذه الأشياء التغيير الكبير الذي أحدثته الحرب في أوكرانيا فيما يتعلق باستخدام الخطاب النووي، مجرد حقيقة أن المسؤولين في الغرب، بقيادة الرئيس ماكرون، يحذرون من أنه يجب تجنب إهانة بوتين بسبب العواقب المحتملة لذلك، ويخشون ضمنياً من أنه قد يستخدم الأسلحة النووية في سيناريو التضييق عليه والدفع به إلى الزاوية، وقد يشكل تغييراً في قواعد اللعبة النووية منذ أن جرى صياغتها في الحرب العالمية الثانية.

وفي الواقع، منذ الغزو، استخدمت روسيا بشكل خطابي متكرر قدراتها النووية لردع الغرب عن التدخل المباشر في الحرب في أوكرانيا، وهكذا أمر بوتين بزيادة التأهب النووي وحذر من الرد غير المتناسب في حالة التدخل الغربي في القتال، وأعلنت روسيا أنها أجرت تدريبات في المنظومة النووية بل إنها استخدمت عملياتياً لأول مرة على الإطلاق صواريخ فرط صوتية قادرة على حمل رؤوس متفجرة نووية، وعلاوة على ذلك من المرجح أن الدرس المستفاد من أوكرانيا التي تخلت منذ حوالي 28 عاماً -اتفاقيات بودابست- عن “بوليصة التأمين النووية” التي كانت بحوزتها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مقابل ضمانات أمنية من القوى الخمس للحفاظ على أمنها وسيادتها، قد يقود الدول التي تتعرض لتهديد مستمر من جيران نوويين أو أولئك الذين يسعون إلى تطوير أسلحة نووية إلى استنتاج مفاده أن هناك حاجة لتطوير قدرات مناسبة.

لكن الحديث لا يدور هنا عن الأزمة الأوكرانية فقط، فقد أظهرت دراسة حديثة أجراها “معهد أبحاث SIPRI” أنه على الرغم من انخفاض العدد الإجمالي للأسلحة النووية خلال عام 2021، فمن المتوقع أن تنمو ترسانة الأسلحة في العقد المقبل، وبالإضافة إلى ذلك، ووفقاً للتقارير تعمل الصين على توسيع ترسانتها النووية، وقد أقامت منشآت لتخزين الصواريخ النووية العابرة للقارات في صحراء غوبي، وكوريا الشمالية في خضم الاستعدادات المتقدمة لتجربة نووية أخرى -أجريت آخر تجربة قبل حوالي 5 سنوات-، وتستفيد إيران من إلغاء الولايات المتحدة للاتفاق النووي لمواصلة تقدمها لتصبح دولة عتبة نووية، وعمليا اليوم إلى جانب معاهدة حظر الانتشار النووي، لا يزال هناك اتفاق واحد فقط بين روسيا والولايات المتحدة كما هو “نيو ستارت”، ومن المتوقع أن ينتهي هو أيضاً في حوالي أربع سنوات، مع إنهاء جميع المحادثات بين روسيا والولايات المتحدة بشأن الاتفاقيات الجديدة بعد الحرب في أوكرانيا.

معاني ل “إسرائيل”

التطورات العالمية لديها أيضاً القدرة على التأثير على سلوك القوى العظمى في الشرق الأوسط، والذي يمكن أن يصبح أيضاً ساحة أخرى للصراع في حقبة الحرب الباردة الثانية، وزيارة الرئيس بايدن المتوقعة إلى الشرق الأوسط (منتصف يوليو) تعكس الإدراك المتزايد لدى الإدارة الامريكية بأنه بالإضافة إلى الرغبة والحاجة لتركيز معظم الجهود والموارد في مواجهة روسيا والصين، يجب عليها أن تتبنى نهج “السياسة الحقيقية” وأن تعيد حساب مسار علاقاتها مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، كطبقة مهمة في التنافس بين القوى، وهذا أولاً وقبل كل شيء، من أجل الحصول على التزام بزيادة إنتاج النفط في محاولة للحد من ارتفاع أسعار الطاقة وارتفاع التضخم، فضلاً عن تقديم رد على العلاقات المتطورة بين دول الخليج والصين وروسيا.

يخلق النظام العالمي الجديد الناشئ فرصاً وتحديات ل”إسرائيل”، فمن ناحية قد يؤدي تزايد التدخل الأمريكي في المنطقة إلى تعزيز الأهمية “الإسرائيلية” لواشنطن، وصب محتوى إضافي في العلاقات الخاصة بين الدولتين على المستوى الثنائي، والمساعدة في تعزيز التعاون متعدد الأطراف مع الدول السنية، ومن ناحية أخرى يمكن أن يؤدي تصعيد التنافس بين الكتل إلى تعميق نظام العلاقات بين موسكو وبكين وطهران، كلاعب رئيسي في المحور المناهض للولايات المتحدة، بل قد يكون له تأثير على التنسيق الأمني المستمر ل”إسرائيل” مع روسيا.

وأبعد من ذلك، قد يعكس تغيير الخطاب النووي العالمي، والدروس المستفادة من الحرب في أوكرانيا أيضاً رغبة دول في الشرق الأوسط في الدفع نحو تطوير برنامج نووي عسكري، وحتى في سيناريو أسوأ تسريع سباق تسلح إقليمي -المملكة العربية السعودية، مصر وتركيا وغيرها- خاصة إذا استمرت إيران في التقدم لتصبح دولة عتبة نووية.

معهد هرتسيليا متعدد التخصصات/ الدكتور شاي هار تسفي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى