يعيش النظام الدولي والإقليمي ديناميكية هشة تقوض النظام العالمي، وتضع “إسرائيل” أمام خطر التصعيد الإقليمي المتزايد، إلى جانب فرصة لتعزيز التعاون الاستراتيجي في المنطقة، ويتزايد هذا التعقيد أيضاً في ضوء الأزمة السياسية المستمرة في “إسرائيل”، والتوقعات بإجراء انتخابات أخرى.
يتأثر النظام الشرق أوسطي بآثار الحرب في أوكرانيا، وبتفاقم أزمة الطاقة والغذاء العالمية، وبالصراع المتنامي بين إيران و”إسرائيل”، وتؤثر هذه الأمور على الديناميكيات بين القوى المختلفة، وعلى الاستقرار العام للنظام الشرق أوسطي، ويتطلب هذا الوضع من “إسرائيل” صياغة سياسة ديناميكية وشاملة تأخذ في عين الاعتبار التعقيد القائم، والصلات الموجودة بين الأنظمة الفرعية، بطريقة تعزز من مصالح أمنها القومي.
إن المواجهة بين “إسرائيل” وإيران آخذة في الاتساع، وتتحول لأكثر عنفاً في المنطقة وفي إيران نفسها، لا سيما بعد مقتل قياديين في الحرس الثوري وعلماء نوويين إيرانيين في الأشهر الأخيرة نُسب مقتلهم إلى “إسرائيل”، وعلى إثر ذلك تزداد التوقعات بتنفيذ هجمات انتقامية ضد “أهداف إسرائيلية” قد تتحقق في المدى القريب في تركيا.
وفي ذات الوقت صعدت “إسرائيل” مؤخراً -وفقاً لمصادر أجنبية- من هجماتها على عمليات نقل الأسلحة والتمركز الإيراني في سوريا، الهجوم الأخير -الذي أغارت به “إسرائيل” على مطار دمشق الدولي، والذي أدى إلى إلغاء الرحلات الجوية بسبب الأضرار التي لحقت بمدرجات الهبوط والإقلاع، وأحدث ضرراً كبيراً في البنية التحتية المدنية الاستراتيجية في وقت ليس وقت حرب- يُنظر إليه على أنه قفزة غير عادية في المعركة بين الحروب.
الرسالة الاستراتيجية التي أوصلتها “إسرائيل” لسوريا هي أنه طالما استمرت دمشق في السماح بنقل الأسلحة الإيرانية والتقنيات المتقدمة عبر المطار الدولي، فإنها ستدفع ثمناً باهظاً على ذلك.
ومن جانبٍ آخر أدى الهجوم “الإسرائيلي” على مطار دمشق الدولي إلى احتجاج روسي عام عنيف، وإلى صياغة مقترح لإدانة “إسرائيل” في مجلس الأمن الدولي، صحيح أن فرص الترويج للاقتراح الروسي منخفضة، لكن اللجوء إلى مجلس الأمن هو تصعيد في سلم التلميحات الاستراتيجية ل”إسرائيل”، ويعبر عن استياء موسكو من الهجمات، وفي الوقت الحالي يبدو أن موسكو تكتفي بالتصريحات لكنها تشير إلى احتمال حدوث ضرر أكبر، بما في ذلك في التنسيق العملياتي المستمر.
وكذلك تفاقمت الأزمة بين إيران و”القوى العظمى” و”الوكالة الدولية للطاقة الذرية” بشأن الاتفاق النووي، وفي تقرير أصدرته “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” في (مايو) الماضي قالت فيه: “إن إيران راكمت كمية من اليورانيوم المخصب -عند مستوى 60٪ و20٪- تسمح لها في غضون أسابيع قليلة بتخصيب مواد انشطارية إلى المستوى العسكري 90٪، والحديث لا يدور بعد عن تطوير رأس متفجر نووي وتركيبه على صاروخ باليستي، وحسب التقديرات، فإن القرار الإيراني لتطوير أسلحة نووية سيستغرق عامين على الأقل، لكنها قفزة كبيرة توضح القدرات والمعرفة التي اكتسبتها إيران، وقد كشفت “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” عن ثلاثة مواقع تم فيها تحديد نشاط نووي غير طبيعي -وجود جزيئات يورانيوم-، ودعت إيران إلى تقديم تفسيرات للمجتمع الدولي بخصوص ذلك.
ورداً على ذلك أوقفت إيران عمل الكاميرات المثبتة في المواقع النووية -27 كاميرا- في إطار الاتفاق النووي لعام 2015، وتطرق المدير العام ل”لوكالة الدولية للطاقة الذرية” إلى الخطوة الإيرانية وأشار إلى أنه في حالة عدم إعادة الكاميرات إلى العمل في الأسابيع المقبلة، فإن الاتفاق النووي سيكون في الواقع خالياً من محتواه، وفي هذه المرحلة تتعثر المفاوضات بشأن الاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى، ولن تتوقف الاتصالات بين الطرفين في الأشهر المقبلة ولكن كما كان الحال منذ بدء الجولة الأخيرة من المحادثات في فيينا، فإن مفاتيح تجديد أو إلغاء الاتفاق النووي هي في أيدي القيادة الإيرانية.
الساحة الدولية
تعتبر الحرب في أوكرانيا هي المصمم الاستراتيجي الرئيسي الذي يعمل على تركيز الطاقة السياسية والأمنية والاقتصادية العالمية في النضال من أجل تشكيل نظام عالمي جديد، وحتى الآن لم يتمكن أي من الطرفين من التوصل إلى حسم عسكري، والهوة بين المعسكرين لا يمكن جسرها، مما حول المواجهة الى حرب استنزاف طويلة ودموية، وتزيد الحرب من تفاقم الخصومة متعددة التكتلات، وتفرض أثماناً باهظة على جميع الأطراف المشاركة وتؤدي إلى أزمة اقتصادية عالمية ذات أبعاد تاريخية.
وقد أدت الحرب إلى أزمة طاقة وغذاء عالمية في أعقاب ارتفاع أسعار النفط ونقص الحبوب، إن تقييم البنك الدولي بشأن الاستقرار الاقتصادي للنظام العالمي في عام 2023 ليس متفائلاً، فالارتفاع غير المسبوق في معدل التضخم، واستمرار الاتجاه نحو رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، وتطور انعدام الأمن الغذائي في دول في أفريقيا والشرق الأوسط، وارتفاع معدل الفقر بسبب ارتفاع مستويات المعيشة، وخطر إفلاس الدول غير القادرة على الوفاء بعبء الدين الوطني والركود العالمي المتزايد، يعزز الافتراض بأن عام 2023 لن يكون عاماً سهلاً بالنسبة للاقتصاد العالمي.
علاوةً على ذلك فإن الأزمة الاقتصادية في الشرق الأوسط هي القضية المركزية على أجندة الأنظمة في المنطقة وذلك في ظل الخوف المتزايد من تأثير الأزمة على الاستقرار السياسي لدرجة إمكانية حدوث اضطرابات إقليمية متجددة، إن البلدان في الشرق الأوسط التي تعاني من ارتفاع معدلات الديون، وارتفاع معدلات التضخم، والوضع المالي غير المستقر، يتعرض استقرارها لخطر متزايد في ظل التسونامي الاقتصادي التي لا يظهر أي بوادر للتراجع، وفي هذا السياق تشكل “اتفاقيات إبراهام” وتوثيق التعاون الاستراتيجي “الإسرائيلي” مع مصر والأردن، وخاصة في مجال الطاقة، بنية تحتية لتطوير العلاقات الاقتصادية، وفرصة لتعميق أهمية “إسرائيل” في النظام الإقليمي.
ينبع قرار الرئيس الأمريكي بزيارة الشرق الأوسط في الشهر المقبل في المقام الأول من حاجة الإدارة الأمريكية إلى صياغة استجابة للتحديات الاستراتيجية في الداخل وعلى الساحة الدولية، وعلى رأسها التحدي الاقتصادي وتحدي الطاقة، وتهدف الزيارة على مستوى التصريحات إلى تعزيز مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كقوة عظمى، وإرساء الالتزام الأمني الاستراتيجي تجاه “إسرائيل” وحلفائها الإقليميين، وكذلك حل الأزمة بين الولايات المتحدة ودول الخليج، وتعزيز التعاون “الإسرائيلي”، وعمليات التطبيع مع النظام السني الإقليمي.
الهدف الرئيسي غير المعلن لزيارة الرئيس بايدن هو زيادة إنتاج النفط السعودي بطريقة تقلل من أزمة الطاقة العالمية، والمحافظة على الضغط العام على روسيا مع تعزيز أعضاء التحالف المناهض لروسيا.
ومن المتوقع خلال الزيارة أن يزور الرئيس بايدن السلطة الفلسطينية وسيقوم بزيارة قصيرة إلى مستشفى المقاصد في القدس الشرقية، ومن المفترض أن تظهر هذه الخطوة التزام واشنطن من حيث المبدأ بالعملية السياسية، ولكن من دون استراتيجية فعلية للنهوض بها، وكجزء من هذا من المفترض أن تقدم الإدارة الأمريكية لفتات سياسية تجاه السلطة الفلسطينية خلال الزيارة، هذه اللفتات ينظر إليها على أنها “ورقة توت” بدون رسالة متجددة من الجانب الفلسطيني، المبادرة التي طرحها الوفد الأمريكي في إطار الاستعدادات للزيارة للدفع لعقد اجتماع قمة بين الطرفين لبدء العملية السياسية رُفضت بشكل قاطع في ظل الأوضاع السياسية الحساسة في “إسرائيل” التي لا تسمح بذلك.
الساحة الفلسطينية
يبدو أن الأمور قد عادت إلى طبيعتها بعد نهاية شهر رمضان، ولكن عملياً بقيت الحساسية وقابلية الانفجار بشكل عام في ظل الجمود السياسي المستمر والمزاعم بخصوص تقويض الوضع الراهن في المسجد الأقصى، وتنامي الخطاب حول “اليوم التالي لأبي مازن”، إن سياسة “جز العشب” التي يتبعها “الجيش الإسرائيلي” في الضفة الغربية والاحتواء في قطاع غزة مع التفرقة بين الأنظمة الفلسطينية تهدف إلى الحفاظ على الهدوء العام والتركيز على المواجهة الاستراتيجية مع إيران، لكنها تلحق الضرر بقدرة “إسرائيل” على المبادرة وتشكيل عمليات تتوافق مع مصالحها الأمنية والقومية وعلى رأسها منع تحقيق فكرة “الدولة الواحدة”.
ملخص وتوصيات
تحتاج “إسرائيل” إلى استخدام أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية في معركتها لوقف إيران في المجالين النووي والإقليمي، والمعركة طويلة الأمد وتتطلب تعاوناً إقليمياً مع تعزيز التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والحفاظ على التنسيق الأمني مع روسيا، وتوضح زيارة بايدن إلى “إسرائيل” ضرورة وأهمية “تل أبيب” للوضعية الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وللهيكلية الأمنية الشاملة.
إن تصعيد التهديد الإيراني يتطلب من “إسرائيل” الاستثمار في بناء قوة مخصصة من أجل إنشاء الخيار العسكري الواقعي والضروري لتعزيز الردع ضد إيران، وستؤسس القدرة العسكرية ذات الصلة أدوات ضغط حقيقية لتحريك الولايات المتحدة والنظام الدولي إلى الترويج لاتفاقيةٍ أطول وأفضل، أو بدلاً من ذلك الدفع تجاه عقوبات دولية شاملة وفعالة ضد إيران.
إن التنبؤات المتشائمة بانهيار اقتصادي واضطرابات إقليمية تلزم “إسرائيل” بصياغة سياسة لمساعدة الأنظمة العربية بشكل مباشر ومن خلال التأثير على واشنطن.
وكجزء من ذلك، فإن اتفاقية الغاز التي تم توقيعها بين “إسرائيل” والاتحاد الأوروبي ومصر، -والتي بموجبها سيتم نقل الغاز إلى منشآت التسييل في مصر ومنها إلى أوروبا- توضح أهمية تعزيز مشاريع الطاقة والمشاريع الاقتصادية المشتركة، وكذلك فإن التعاون في مجال الطاقة له أهمية جيوسياسية في ترسيخ أهمية “إسرائيل” لاستقرار اقتصاد الطاقة في المنطقة.
على “إسرائيل” الامتناع عن اتخاذ خطوات مثيرة للخلافات في الساحة الفلسطينية قبل زيارة الرئيس بايدن للمنطقة، والخطوات التي تزيد من التوتر مع الفلسطينيين وتحرج الرئيس الأمريكي خلال زيارته قد تخلق أزمة في العلاقات في وقت حساس تحتاج فيه “إسرائيل” إلى دعم أمريكي في ظل حجم وقوة التهديدات الاستراتيجية على أمنها.
ملاحظة: المقال يعبر عن رأي كاتبيه