ما هي وثيقة ماغنا كارتا، وكيف أسست لمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية؟
يوافق الخامس عشر من يونيو/حزيران من كل عام ذكرى وضع الملك جون ملك إنكلترا ختمه على وثيقة ماغنا كارتا، التي تمثل أهمية كبيرة في تاريخ الحضارة الغربية. ورغم أنها كانت تهدف بالأساس إلى الحيلولة دون نشوب حرب أهلية في البلاد، إلا انها أصبحت فيما بعد رمزا لمبادئ الحرية والديمقراطية.
فما قصة ماغنا كارتا، ولماذا يتم الاحتفاء بها إلى الآن؟
ملك مستبد وبارونات متمردون
تعني عبارة ماغنا كارتا “الميثاق العظيم” باللغة اللاتينية، وقد صاغها النبلاء البريطانيون في القرن الثالث عشر الميلادي بهدف تقليص صلاحيات الملك ونفوذه وقدرته على الانفراد بالحكم.
حكم الملك جون بريطانيا بين عامي 1199 و1216، ويذكر التاريخ أنه كان ملكا قاسيا يعشق السلطة والنفوذ. وقد ساعدت القصص التي كتبت في أعقاب انتهاء حكمه في تكوين هذه الصورة عنه. من بين من كتبوا عنه الأديب الإنجليزي الشهير ويليام شيكسبير الذي ألف مسرحية بعنوان The Life and Death of King John (حياة الملك جون ووفاته) في أواخر القرن السادس عشر، حيث صوره على أنه ملك دموي ضعيف الشخصية.
كما أن قصص الفلكلور الإنجليزي التي تتحدث عن شخصية الفارس الشجاع الخارج عن القانون “روبن هود” الذي يسرق من الأغنياء ليساعد الفقراء تناولت الملك جون بوصفه شخصا شريرا أساء معاملة رعيته.
وربما تعود أول الروايات السلبية عن الملك جون إلى كتابات الرهبان والكتاب الدينيين في العصور الوسطى. فقد كتب العديد منهم أنه كان رجلا شريرا – وأن كان ثمة احتمال أن يكون سبب تصويرهم له على هذا النحو يعود إلى إحكام قبضته على الكنيسة الإنجليزية التي كانت تابعة للكنيسة الكاثوليكية في ذلك الحين، ووجود خلاف بينه وبين البابا.
نُصب جون ملكا لإنكلترا في عام 1199 خلفا للملك ريتشارد الأول، الذي توفي ولم يكن له أبناء يرثون العرش من بعده، فأصبح الحكم من نصيب جون، شقيق الملك ريتشارد الوحيد الذي كان لا يزال على قيد الحياة.
كان الملك ريتشارد الأول قد بذل الكثير من الوقت والمال في خوض حروب ضد فرنسا وشن حملات صليبية. ولدى عودته من تلك الحملات، تعرض للأسر على يد الإمبراطور الروماني هنري السادس فيما يعرف الآن بألمانيا. أفرج عن ريتشارد في عام 1194 بعد دفع مبلغ كبير على سبيل الفدية، وهو ما أضر كثيرا بالوضع المالي لإنجلترا.
بينما كان الملك ريتشارد قابعا في أسره، تآمر شقيقه جون مع ملك فرنسا فيليب الثاني في محاولة للاستيلاء على عرش إنجلترا، ولكنهما فشلا، ولكن جون وريتشارد تصالحا فيما بعد بعد عودة الأخير إلى البلاد.
عندما تولى جون العرش، كانت إنجلترا غارقة في الديون، ووجد الملك الجديد نفسه مضطرا لخوض حرب على عدة جبهات: مع فرنسا (التي تمكنت من استعادة الكثير من الأراضي الفرنسية التي كانت خاضعة لسيطرة إنجلترا)، مع البابا (بسبب خلاف حول مرشحه لتولي منصب كبير أساقفة كانتربري)، ومع النبلاء الإقطاعيين، أو “البارونات” في بلاده، الذين كانوا غاضبين لفرضه ضرائب باهظة عليهم.
بينما كان الملك جون يشن حربه الكارثية في فرنسا، اجتمع كبار البارونات الإنجليز سرا واتفقوا على إجباره على احترام حقوقهم وحقوق رعيته. وعندما عاد، قدّموا له سلسلة من المطالب.
حاول الملك حشد التأييد لكي يتفادى الرضوخ لتلك المطالب، لكن يبدو أن غالبية أتباعه انفضوا من حوله. ومع ضعف موقفه وانخفاض شعبيته، لم يتمكن جون من مقاومة البارونات والأساقفة الذين أيدوهم، وقبل في نهاية المطاف الاجتماع بهم، ووضع ختمه على وثيقة المطالب التي عرفت بالماغنا كارتا في 15 يونيو/حزيران عام 1215.
البنود
يتألف “الميثاق العظيم” من 63 قسما، تناول معظمها حقوق الإقطاعيين وواجباتهم، ولكن بعض بنودها نص كذلك على حماية حقوق الكنيسة والتجار وسكان المدن والقرى.
كما أنها كفلت حقوق النساء والأطفال في الميراث، ونصت على أنه لا يجوز معاقبة الأشخاص على ارتكاب أي جرائم إلا إذا أدينوا بشكل قانوني.
وأعطت الوثيقة كذلك الحق للبارونات في إعلان الحرب على الملك إذا لم يلتزم ببنود الميثاق.
كانت ماغنا كارتا أول وثيقة مكتوبة تؤسس لحكم القانون وتحَجّم صلاحيات الملك ونفوذه وتسمح لملاك الأراضي الأثرياء بأن يكون لهم رأي في أي ضرائب جديدة يرغب الملك في فرضها. ولكن عند صياغتها، كان الهدف الرئيسي من ورائها هو أن تكون ببساطة اتفاقية مؤقتة لتحقيق السلام ومنع نشوب حرب أهلية.
لم يلتزم الملك جون ببنود الميثاق، مما أدى إلى نشوب حرب أهلية بين الملك من جهة، والبارونات الذين استعانوا بالجيش الفرنسي نظرا للعداء التاريخي بين إنجلترا وفرنسا من جهة أخرى.
استمرت الحرب، التي عُرفت بحرب البارونات الأولى لمدة عام، وانتهت بوفاة الملك جون وتولي ابنه البالغ من العمر 9 سنوات هنري الثالث عرش البلاد. تعهد الملك الجديد بالالتزام ببنود ماغنا كارتا وحظي بدعم البارونات.
رمز للكفاح ضد الاستبداد
أعيد إصدار الميثاق مرة أخرى في عام 1225، وبحلول ذلك الوقت، أصبح أكثر من مجرد إعلان للقانون العام. فقد تحول بحسب مؤرخين إلى رمز للكفاح ضد القمع والاستبداد. ومتى باتت الحرية في خطر، كان يتم الاستشهاد بالميثاق للدفاع عنها.
الأثر الذي تركه ماغنا كارتا على إنجلترا، ثم على مستعمراتها لاحقا، لم يأت من البنود المتعلقة بتنظيم العلاقات الإقطاعية، بل من البنود الأكثر عمومية التي فسرتها الأجيال اللاحقة بوصفها حماية لحرياتهم وحقوقهم.
على سبيل المثال، أشهر بنود الميثاق، والذي ينص على أنه “لا يجوز اعتقال أي شخص حر أو سجنه أو تجريده من ممتلكاته أو تجريمه أو نفيه أو معاقبته بدون وجه حق بأي شكل من الأشكال، [أو مهاجمته]، إلا بعد صدور حكم عادل من قبل أقرانه أو بموجب قانون البلاد”، كان مصدر إلهام لإعلانات حقوقية لاحقة، مثل “التماس الحقوق” الذي قدمه البرلمان الإنجليزي إلى الملك تشارلز الأول في عام 1628 للمطالبة بعدم سجن أي شخص بدون سبب، وعدم إيواء الجنود في مساكن خاصة بدون إذن أصحابها وعدم تطبيق الأحكام العرفية في وقت السلم.
بل إن هذا البند أصبح فيما بعد بمثابة حجر الأساس لمفهوم “due process” (أو الإجراءات القانونية الواجبة والسليمة) في نظام القضاء الأنجلو-أمريكي.
في القرن السابع عشر، عندما شرعت المستعمرات البريطانية في وضع قوانينها الأساسية، ضمنتها عبارات وكلمات من ماغنا كارتا، كما أن الحقوق الأساسية التي نص عليها دستور الولايات المتحدة الأمريكية (1789) شملت بعض المبادئ التي أسس لها الميثاق العظيم.
ويعتبر الكثير من المختصين أن “إعلان الاستقلال” الأمريكي (1776)، و”وثيقة الحقوق” البريطانية(1689) و”إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الفرنسي(1789) ولدت جميعها من رحم ماغنا كارتا.
في كثير من الأحيان، كان ملوك إنجلترا يحاولون تجاهل ماغنا كارتا. ولكن الوثيقة كانت الخطوة الأولى باتجاه تقليص صلاحياتهم وسلطاتهم. وبينما تآكلت تلك الصلاحيات تدريجيا، تعاظم نفوذ النبلاء أولا ثم البرلمان لاحقا، حتى لم يعد للملك أو الملكة أي دور سياسي على الإطلاق.
اللبنة الأولى لحقوق الإنسان
يرى كثير من المؤرخين والحقوقيين أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم تبنيه عام 1948 استلهم من مبادئ ماغنا كارتا وغيرها من المواثيق الحقوقية في الغرب.
أسس “الميثاق العظيم” للفكرة الحقوقية الحديثة التي تنص على أنه لا يمكن سلب الحقوق الأساسية للأفراد أو التدخل فيها إلا من خلال إجراءات قانونية سليمة.
أسس ماغنا كارتا كذلك لمبدأ الحكم بالتراضي الذي تحول إلى الحق في انتخابات حرة ونزيهة، وشمل بنودا تحظر الرشوة والفساد الحكومي.
نصت الوثيقة أيضا على حق الكنيسة في التحرر من نفوذ الحكومة، وحق جميع المواطنين الأحرار في امتلاك وتوريث الممتلكات، وحمايتهم من الضرائب المبالغ فيها.
كما أنها نصت على حق النساء الأرامل اللاتي لديهن ممتلكات أن يؤثرن عدم الزواج مرة أخرى، وأسست لمبدأ تساوي الجميع أمام القانون.
لم تحقق وثيقة ماغنا كارتا – التي لم يطلق عليها هذا الاسم إلا بعد سنوات من صياغتها – نجاحا كبيرا وقت صدورها: فقد فشلت في منع الحرب الأهلية، ووصفها بابا الكاثوليك آنذاك، البابا إنوسنت الثالث، بأنها “غير قانونية وغير عادلة وتقوض الحقوق الملكية وبمثابة عار على الشعب الإنجليزي”.
لكن أهميتها تكمن في رمزيتها كواحدة من أول الوثائق التاريخية في الغرب التي وضعت بذور مفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية. وفي القرون الثمانية التالية لصياغتها، صدّرت ماغنا كارتا تلك الأفكار والمفاهيم لمختلف أنحاء العالم.