مباط عال”، عدد 2/4/2022-العدد رقم 1595
يوحنان تسوريف – باحث في مركز أبحاث الأمن القومي
- التصعيد المستمر منذ أكثر من شهر على الساحة الإسرائيلية-الفلسطينية، هو نتاج خطة أعدتها “حماس”، وبدأت قبل عدة أشهر من بداية شهر رمضان. لقد أرادت “حماس”، كجزء من استخلاصات هبّة أيار/مايو 2021، استغلال الأماكن المقدسة في القدس الشرقية، بهدف تشجيع احتجاج شعبي واسع يعبر عن تضامن فلسطيني شامل في القدس والضفة الغربية وداخل إسرائيل. صحيح أن الجماهير الواسعة لم تستجب لهذا النداء، لكن الحركة سجلت ثلاثة إنجازات على ثلاثة أصعدة: تم وضع القضية الفلسطينية على طاولة الرأي العام الدولي؛ أغلبية الدول العربية انتقدت إسرائيل وحتى استدعت السفراء، وضمنها الدول التي طبعت العلاقات معها؛ تبيَّن ضعف السلطة الفلسطينية وحركة “فتح”. والسؤال هو: هل من الضروري الاستمرار في التفكير في مصطلحات وخطوات عقابية بحق “حماس” إلى جانب خطوات الهدف منها تحسين حياة السكان في قطاع غزة والضفة الغربية-أفكار تضعف السلطة الفلسطينية وتزيد من قوة “حماس”؟ وهل صحيح أن انعدام الأفق السياسي يشكل ذريعة لانعدام التفكير في مسارات سياسية توقف انهيار مكانة السلطة؟
- إن القضية ليست قضية شباب من دون أفق، ولا ثورة مراهقين. صحيح أن التصعيد على الساحة الفلسطينية – الإسرائيلية، المستمر منذ أكثر من شهر، بدأ بعمليتين إرهابيتين في بئر السبع والخضيرة (22 و28 آذار/مارس)، تم تنفيذهما على يد مواطنين إسرائيليين عرب لهم علاقة بـ “داعش”، واستمر من خلال عمليتين إضافيتين في بني براك وتل أبيب تم تنفيذهما على يد منفذين منفردين من منطقة جنين، بالإضافة إلى عملية في أريئيل نهاية شهر رمضان نُفذت على يد اثنين من القرى المجاورة، لكن التعبير الأهم عن التصعيد، كان بالمقاومة الشعبية – احتكاك مستمر بين الفلسطينيين والشرطة والجيش، ونقطة الاشتباك الأساسية هي الأماكن المقدسة في القدس الشرقية ومحيطها، وجنين، والحرم الإبراهيمي في الخليل ومناطق أُخرى في الضفة الغربية. وهذا التصعيد، هو نتيجة خطة مدروسة تديرها “حماس”، بمشاركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني والجبهة الشعبية، وللشباب دور فيها، لكنه لا يقودها، إنما يجد فرصة بمبادرة “حماس” وأجواء التصعيد التي يخلقها التنظيم، للتفريغ عن الضغط المتراكم منذ وقت طويل. بكلمات أُخرى، لا يجب أن يكون الاستنتاج أن هناك إجماعاً بين الشباب والتنظيمات الإسلامية حول شكل الصراع مع إسرائيل ورؤية الحل.
- بدأت حماس بتحضير الأجواء للتصعيد في شهر رمضان منذ كانون الثاني/يناير 2022. وحذر التنظيم من مساس إسرائيل بالمسجد الأقصى، واقتحامه، وتوسيع حرية العبادة لليهود فيه، ونسخ نموذج الحرم الإبراهيمي-في أعقاب مجررة باروخ غولدشتاين سنة 1994، تم إقرار نظام جديد جرى من خلاله تقسيم الصلاة في الحرم على أوقات متعددة، يدعي المسلمون أنها منحازة إلى اليهود.
- لا تستند ادعاءات “حماس” إلى أي حقائق، والهدف منها تحريض الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وداخل إسرائيل وتجهيزهم للتصعيد القادم في شهر رمضان. والسياسة الإسرائيلية، منذ تشكيل الحكومة الحالية في أيار/مايو 2021، هي الامتناع عن كل خطوة إشكالية من شأنها زعزعة استقرار الائتلاف الحكومي. لذلك، لم تقم الحكومة بأي خطوة من شأنها تغيير الوضع القائم في شرق القدس وفي محيط الأماكن المقدسة كما خلال عملية “حارس الأسوار”-جولة التصعيد التي حصلت في أيار/مايو بين إسرائيل و”حماس”، بدأت في القدس وتركزت في قطاع غزة.
- عملياً، إن جولة التصعيد الحالية هي الجزء الثاني من الجولة نفسها التي اندلعت في أعقاب إلغاء رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن الانتخابات التشريعية. فقد انتزع هذا الإلغاء من “حماس” فرصتها بالانتصار في الانتخابات، والتحول إلى جزء من القيادة التي تمثل وتقود القضية الفلسطينية، ووضع حد لاحتكار “فتح” وأبو مازن لهذه القيادة. وهذه استراتيجيا تم تطويرها خلال فترة إدارة ترامب، حيث استدعت محاولات فرض “صفقة القرن” مقاومة فلسطينية شاملة، وتقارباً داخلياً كان يبدو للوهلة الأولى أنه سيجعل من إمكان المصالحة الفلسطينية واردة.
- أعاد إلغاء الانتخابات “حماس” إلى دائرة المواجهة، لكن بصورة مغايرة لما كان قبل ذلك حتى عام 2014. حينها، تركزت مطالب “حماس” بفك الحصار، وفتح المعابر، وحرية الحركة من القطاع وإليه، بالإضافة إلى تحسين ظروف حياة السكان. وفي السنوات ما بعد عام 2014، واجهت الحركة صعوبات في شرعنة الكفاح المسلح ضد إسرائيل في أوساط سكان القطاع، وجاء التعبير عن هذا الأمر من خلال تبني نماذج المقاومة الشعبية على الشريط الحدودي. وبررت قيادات الحركة الخطوة بأنها خطوة ضرورية في ظل تغير الظروف الموضوعية، وضمنها التعب الذي يسيطر على الجمهور في غزة، وانعدام الدعم اللازم عربياً، بالإضافة إلى عدم وجود أفق للمصالحة الداخلية. وقبيل التصعيد الحالي، عادت “حماس” وأكدت أن قطاع غزة قدم الكثير في مقاومة إسرائيل، وجاء الوقت الذي يجب فيه على الضفة أن تقدم حصتها، مع التشديد على أن غزة لن تقف جانباً، وستنضم إلى المواجهة بحسب التطورات.
- الهدف الذي وضعته حماس لم يكن محصوراً بمقاومة الاحتلال، بل أيضاً استغلال ضعف السلطة والانهيار الكلي لاستراتيجية المفاوضات السياسية في ظل طرح “صفقة القرن”، بهدف توحيد الشعب الفلسطيني حول العامل المشترك الواسع، وتعميق المعارضة للسلطة بهدف تحقيق ما لم تنجح في تحقيقه من خلال الانتخابات.
- ومن خلال المسجد الأقصى والأماكن المقدسة في القدس الشرقية، نجحت “حماس” في أيار/مايو 2021 بالربط بين قطاع غزة والقدس والمواطنين العرب في إسرائيل، بالإضافة إلى بث الروح في أوساط الفلسطينيين الذين يطالبون بالتغيير. وبعد مضي عام، واقتراب شهر رمضان، أرادت “حماس” استعادة ما جرى بهدف الوصول إلى النتيجة نفسها، لكن العفوية التي ميزت التجند الفلسطيني المتعدد الجبهات في عام 2021، لم تعد موجودة، فالعمليات في الخضيرة وبئر السبع، التي لم يتضح بعد إن كان لها أبعاد أعمق من المحاكاة، لم تدفع إلى تضامن واسع مع المنفذين في أوساط المواطنين الفلسطينيين، كما أن الإدانة الواسعة من القيادات كانت واضحة وواسعة، ومنعت تطور الأحداث في هذه الجبهة.
- أمّا في القدس الشرقية، فنجحت “حماس” بتجنيد أعداد كبيرة من شرق القدس والضفة والعرب في إسرائيل، للوقوف أمام أعداد الشرطة الكبيرة التي أرادت فرض النظام من خلال “تقريب القلوب”. وعادت الحركة وشددت على الادعاءات الفارغة بخصوص تغيير الوضع القائم، ودخول اليهود للصلاة وغيرها، إذ أرادت بث رواية تفيد بأن الأقصى في خطر.
- وفي منطقة جنين، التي خرج منها منفذو العمليات في بني براك وتل أبيب، وكانت نقطة احتكاك إضافية، حصلت مواجهات بين الجنود ومقاتلين محليين، بينهم عناصر من “فتح”، والجهاد الإسلامي وغيرهم، أدت بدورها إلى إلقاء حجارة بمشاركة جماهير من المنطقة. وبرز مخيم جنين مرة أُخرى كبؤرة للإرهاب فيها تنسيق بين مختلف الفصائل-بعضهم يعيش حالة تنافس أيضاً، كالجهاد الإسلامي و”فتح”.
- وعلى الرغم من ذلك، فإن أي مواجهات جماهيرية واسعة لم تحدث في الضفة والقدس، على نمط الانتفاضة الأولى عام 1987، حيث لفتت انتباه المجتمع الدولي والدول العربية ودفعت بعد أعوام إلى مسار سياسي طموح. في الواقع الفلسطيني الحالي، من الممكن أن تشارك الجماهير الواسعة في حالتين هما: التنسيق بين “فتح” و”حماس” اللتين تملكان القدرة على خلق حالة إجماع، أو من خلال احتكاك مباشر ودائم مع الشرطة يتضمن العديد من الإصابات، ويدور حول الأماكن المقدسة، كما تعتقد “حماس”. لا يبدو التنسيق بين “فتح” و”حماس” واقعياً اليوم، كما أنه لا يوجد في المجتمع الفلسطيني إجماع على مواجهة واسعة مع القوات الإسرائيلية. هذا بالإضافة إلى أن الاستعداد المسبق للشرطة وللمؤسسة الأمنية على مواجهة الاشتباكات من دون التسبب بوقوع الكثير من الإصابات، منع عملياً من حصول بعد جماهيري مهم جداً بالنسبة إلى “حماس”.
- لقد فشلت “حماس” حتى الآن في تحقيق الهدف الأساسي من التصعيد. ولم تتطور جبهات إضافية، كما أن المواجهة لم تتسع. وعلى الرغم من ذلك، فإن “حماس” سجلت إنجازات على ثلاثة أصعدة: القضية الفلسطينية عادت إلى الرأي العام الدولي بعد غيابها الصارخ عن “قمة النقب”، والأمم المتحدة والرأي العام الدولي انشغلا بما حدث، كما أن أغلبية الدول العربية أدانت إسرائيل وانتقدت بشدة ما تقوم به في الأماكن المقدسة. فقد وجه الأردن، المهدد أكثر من غيره من الدول العربية بسبب التصعيد في القدس، توبيخاً إلى مندوب السفارة الإسرائيلية، ودعا إلى اجتماع خاص لجامعة الدول العربية ناقش التصعيد ودان إسرائيل. هذا بالإضافة إلى أن “حماس” أبرزت ضعف السلطة الفلسطينية وحركة “فتح”، والكشف عن تمرد في صفوفها. كما أن الانتقادات التي وجهتها السلطة إلى إسرائيل كانت لاذعة، إذ اتهمت إسرائيل بالتصعيد، وأعادت التشديد على رواية “حماس”، وقامت عملياً بصب الوقود على النار.
- لقد أصبح شهر رمضان خلفنا، لكن الأيام الحساسة لا تزال أمامنا، ومن الممكن أن يدخل العامل الجماهيري الواسع إلى الصورة. ويبدو حتى الآن، أن “حماس” قامت بخطوة إضافية في طريقها إلى أن تكون البديل من السلطة في أوساط الجمهور الفلسطيني. وعلى الرغم من الفروقات بين الضفة وغزة، والتي ظهرت خلال الجولة الحالية حيث لم تشترك غزة، فإنه يبدو واضحاً أن الربط الذي قامت به “حماس” عبر إدارة المعركة من غزة، أو استناداً إلى القوة العسكرية الموجودة في غزة، يظهر الارتباط بين المكانين. فنرى أمام أعيننا المسار الذي فيه تنهار السلطة، “فتح” وأبو مازن، في مقابل صعود “حماس” كقوة مبادرة وحيوية.
- هل تقوم إسرائيل بالخطوة الصحيحة من خلال الاستمرار في حديثها عن حلول اقتصادية وبنى تحتية، وهل من الصحيح الاستمرار في التفكير في خطوات عقابية ضد “حماس” بهدف الردع؟ هل من الصحيح الاستمرار في تجاهل حقيقة أن انعدام الأفق السياسي يضعف السلطة ويقوي “حماس” أكثر؟ التفكير السياسي لا يعني بالضرورة الوصول إلى اتفاق، إنما الاعتراف بضرورة فحص الإمكانات وفتح المسارات. وغياب هذا التفكير معناه تجاهل، والتجاهل سيفرض دائماً لفت انتباه المتجاهل ذاته.