ٍَالرئيسية

ثمة ما يجب أن يثير قلقنا من الحرب البحرية في أوكرانيا

البروفيسور شاؤول حوريف - رئيس مركز دراسات السياسة والاستراتيجيا البحرية في جامعة حيفا، عميد سابق في سلاح البحر الإسرائيلي

وقع Ynet، 24/4/2022
ثمة ما يجب أن يثير قلقنا من الحرب البحرية في أوكرانيا
البروفيسور شاؤول حوريف – رئيس مركز دراسات السياسة والاستراتيجيا البحرية في جامعة حيفا، عميد سابق في سلاح البحر الإسرائيلي
  • المعركة البحرية في الحرب الروسية – الأوكرانية ليست الحلبة المركزية، وهي غير متاحة أمام وسائل الإعلام، والسكان المدنيون ليسوا طرفاً فيها، كما أن الأحداث التي تجري في إطارها لا تحظى سوى بأصداء إعلامية خافتة إذا ما قورنت بأصداء الأحداث التي تقع على اليابسة. وتتميز المعلومات التي تُنشر عنها بأنها تحليلات غير مهنية، وبالاستخدام المغلوط فيه للمفاهيم والمصطلحات البحرية، وبالفهم الخاطئ لمعنى الأحداث ودلالاتها. والتقارير المتعلقة بالمعركة البحرية، والتي تصل إلى الجمهور، تعتمد على الروايات التي تقدمها الأطراف المتنازعة، بما في ذلك التلاعب بالمعلومات.
  • ومع ذلك، من غير الممكن تجاهُل بعض الأحداث المؤسِّسة التي وقعت في هذه الحلبة حتى الآن: غرق الطراد الروسي “موسكو”/”موسكفا” (وأغلبية أعضاء طاقمه المؤلف من 500 شخص، كما يبدو) جرّاء صواريخ أوكرانية مضادة للسفن؛ إغلاق مضيقيْ البوسفور والدردنيل أمام حركة القطع البحرية العسكرية (التابعة لروسيا ولدول حلف شمال الأطلسي/الناتو، على حد سواء)؛ الحصار الذي فرضه الأسطول الروسي على الموانئ الأوكرانية (الذي أدى إلى تشويش سلسلة الإمدادات العالمية في المضائق المختلفة)؛ زرع الألغام البحرية في البحر الأسود (الذي لم تُعرف بعد هوية الجهة التي قامت به)؛ إطلاق الصواريخ الموجهة من الغواصات والقطع البحرية الروسية الأُخرى في البحر الأسود وبحر قزوين ضد أهداف برية، والمخطط الروسي (الذي لم يخرج إلى حيّز التنفيذ بعد) لتنفيذ عمليات برمائية في محيط مدينة أوديسا.
  • يؤكد البحث المعمّق في هذه الأحداث استمرار منحى التغيير في طابع الحرب البحرية، وهو ما يحتّم على أساطيل الدول المختلفة في العالم ملاءمة العقيدة، وتنظيم القوة والتقنيات التي تعتمدها وتعمل على تطويرها لمواجهة هذا التحدي. وربما كانت أساطيل دول حلف شمال الأطلسي [الناتو] هي الأولى التي ستكون مضطرة إلى مواجهة إجراء من هذا القبيل، ولا سيما أن المعركة الحالية قد أيقظتها من الوهم الذي نشأ وتكرس لديها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي مركزه الاعتقاد أنه من غير المتوقع في المدى المنظور حدوث مواجهة عسكرية على نطاق واسع على الأرض الأوروبية وفي محيطها البحري.
  • من الضروري، في رأيي، أن تسارع الجهات المعنية وذات الصلة بالموضوع في دولة إسرائيل وفي الجيش الإسرائيلي – بما في ذلك الذراع البحرية -إلى استخلاص العِبر من أحداث المعركة البحرية بين روسيا وأوكرانيا، وفهم التغيرات التي حدثت، ثم تنفيذ الإجراءات اللازمة في مبنى القوة البحرية من أجل ملاءمة عقيدة استخدامها للمميزات الفريدة الخاصة بدولة إسرائيل.
  • ثمة اتفاق واسع يسود بين الخبراء البحريين على أن غرق الطراد الروسي، الذي يمثل سفينة القيادة في أسطول البحر الأسود، شكّل ضربة قاسية للهيبة للروسية، إلاّ إن بعض المحللين العسكريين يخطئون في عزو سبب الغرق الرئيسي إلى “عمر الطراد المتقدم” وحالته المتدنية من حيث الصيانة. فهم يتجاهلون، بذلك، التغيرات في طابع الحرب البحرية خلال العقود الأخيرة، والتي غضّ الأسطول الروسي أيضاً الطرف عنها في عقيدته الخاصة بتشغيل الطراد، الأمر الذي أدى إلى إصابته في نهاية المطاف.
  • أُنجز بناء هذا الطراد في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، في أوج الحرب الباردة، وكان مُعَداً للتصدي لمجموعات حاملات الطائرات الأميركية وتوفير الحماية الجوية لقطع الملاحة البحرية السوفياتية التي كانت تنشط في منطقة المحيط الأطلسي، طبقاً للرؤية التي وضعها خبير الاستراتيجيات البحرية البارز في بداية القرن العشرين، الأدميرال الأميركي ألفرِد ماهان. فقد كانت نظريته الأساسية تقول إن مهمة الأسطول الحديث تتمثل في تحقيق التفوق البحري بواسطة المعارك الحاسمة ـ وهي النظرية التي ثبتت نافذيتها خلال الحربين العالميتين. وقد أثبت الصراع على السيطرة على البحر المتوسط، على شمال المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، والذي انتصرت فيه بريطانيا والولايات المتحدة، مدى حيوية الأسطول وفاعليته في هزم دول المحور.
  • عقب الحرب العالمية الثانية، فقدت المعارك الحاسمة (Decisive Battles) في البحار المفتوحة من أهميتها وصلاحيتها كعنصر في تحقيق التفوق البحري، وذلك لأسباب عدة: استجابات القوات البحرية بطيئة مقارنةً بالقوات الجوية؛ الشروع في استخدام وسائل أُخرى جديدة، تحت الماء وفي الجو بصورة خاصة، وهو ما أدى إلى إضعاف قدرة القوات البحرية على تحقيق التفوق المطلوب؛ وضع وسائل الكشف الجوي والبري في قيد الاستخدام، الأمر الذي أتاح للدول السيطرة على المناطق المائية من دون الحاجة إلى تحقيق التفوق البحري.
  • لكن الطراد “موسكفا”، في الحالة العينية الراهنة في الحرب الروسية – الأوكرانية، كان مضطراً إلى التعامل مع صنف جديد من المواجهة يُعرف باسم “القتال غير المتكافئ”، يجري في المنطقة الساحلية (littoral)، وليس في المحيطات، أو في البحار المفتوحة.
  • ظهرت العلامات الأولى لهذا النوع الجديد من القتال خلال ثمانينيات القرن الماضي في منطقة الخليج الفارسي، في إبان المعركة البحرية في الحرب العراقية – الإيرانية، والتي عُرفت باسم “حرب الناقلات”. في أيار/ مايو 1987 أصيبت المدمرة الأميركية “ستارك” (USS Stark) بأضرار جسيمة جرّاء سقوط صاروخيْ جو – بحر من طراز “إكزوست”، أطلقتهما عليها طائرة حربية عراقية. وفي سنة 2000، أُصيبت المدمرة الأميركية “كول” (USS Cole) في أثناء رسوّها خارج ميناء عدن، جرّاء استهدافها بقارب متفجر تابع لتنظيم “القاعدة”. وهذا ما واجهه سلاح البحرية الإسرائيلي في إبان حرب لبنان الثانية (2006)، حين تعرضت فرقاطة “آي إن إس هانيت – ساعر 5” لإصابة مباشرة قاسية بصاروخ مضاد للسفن، أطلقه عليها تنظيم حزب الله، بينما كانت تُبحر غرباً نحو ميناء بيروت. في الحالات الثلاث هذه، لم تستوعب الأساطيل التغيير النوعي الذي حدث في طبيعة الحرب الجديدة التي تطورت في الفضاء البحري والحاجة إلى الاستعداد له.
  • الأدميرال الأميركي جيمس ستافريديس، الذي كان يشغل في السابق منصب قائد القيادة الأوروبية والقوات العسكرية التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في القارة الأوروبية، ويُعتبر أحد أكثر العقول التي ظهرت في الولايات المتحدة إبداعاً، كان قد أشار قبل بضعة أعوام إلى تطوُّر نوع جديد من الحرب يُدعى “الحرب الهجينة”. وتتجلى خصائصها في كلتا الحلبتين، البرية (مقاتلو فاغنر) والبحرية (المتمردون الحوثيون). يسمح هذا النوع من القتال لذراعيْ روسيا وإيران، على التوالي، بتنفيذ عمليات ترهيب، وإذلال وتدمير لقدرات الخصم (مثل منشآت الطاقة في السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة) من دون نسب هذه العمليات بصورة صريحة وواضحة إلى الدول التي تشغّل الأذرع، ومع إعفائها من واجب تحمُّل المسؤولية. ومع الأخذ في الاعتبار الغموض البنيوي في هذا النوع من الحرب، فهي لا تتطلب أيضاً الاستثمار في وسائل باهظة الثمن.
  • إلى جانب الحرب غير المتكافئة والهجينة، التي يجري استخدامها في الحرب الروسية – الأوكرانية الراهنة، يجدر النظر أيضاً في طبيعة أحداث إضافية أُخرى: الإغلاق من طرف واحد لمعابر مائية دولية أمام حركة قطع بحرية عسكرية (مسألة تضررت إسرائيل جرّاءها أكثر من مرة)، ودلالات ضرب قطع بحرية عسكرية كبيرة تضم طواقم كبيرة العدد، من زاوية الحساسية العالية إزاء فقدان حياة البشر. كما تجدر إعادة النظر أيضاً في استخدام طريقة زرع الألغام البحرية، لأن المتمردين الحوثيين يستخدمون هذه الطريقة في جنوب البحر الأحمر، وهو ما قد يجعلها تهديداً للملاحة البحرية الإسرائيلية في هذه المنطقة. من المهم التعلُّم من تجارب الآخرين، وينبغي لذراع البحرية الإسرائيلية استغلال هذه الفرصة لإعادة الفحص والنظر في مفاهيم العمل المعتمدة لديها حيال التغيرات التي حدثت في طبيعة هذا النوع من القتال، كما نشهدها في الحرب الراهنة.
  • مثل هذه الخطوة، ينبغي أن تصحبها ملاحظة تحذيرية: ما من شك في أن للتكنولوجيا بصورة عامة، وللتجديدات التكنولوجية بصورة خاصة، تأثيراً حاسماً في الاستراتيجيا البحرية وعقيدة الأساطيل الحربية. ومع ذلك، ينبغي الحذر من مغبة الوقوع في الكمين الشائع في جهاز الأمن الإسرائيلي والقائم على فكرة أن لكل مشكلة استراتيجية حلاً تكنولوجياً. ذلك بأن هذا التوجه الأحادي البعد من شأنه أن يلغي، أو يعيق، بدائل من مجال العقيدة الحربية، ومن شأنه التسبب بحدوث مفاجآت، كتلك التي حدثت في إصابة الفرقاطة “آي إن إس هانيت – ساعر 5” خلال حرب لبنان الثانية (وهي الفرقاطة التي كانت مزودة بتجهيزات قتالية متطورة جداً للوقاية من الصواريخ، إلاّ إن مفهوم تشغيلها كان خاطئاً).
  • إن الرد على التغييرات في طابع الحرب يستدعي إيجاد وتحقيق التوازن المناسب، بين الاعتماد على العنصر التكنولوجي وبين المركّب المفهومي والتنظيمي. من أجل ضمان النجاح في هذه المهمة، المطلوب من سلاح البحر الإسرائيلي، ضمن أمور أُخرى، الاستثمار في تأهيل العاملين في مجال التفكير الاستراتيجي الخاص بالحلبة البحرية.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى