تداعيات الحرب الأوكرانية على الدول العربية المصدِّرة للطاقة

ناصر التميمي

تداعيات الحرب الأوكرانية على الدول العربية المصدِّرة للطاقة

اتجاه أوروبا إلى تعويض واردات الطاقة الروسية، مثَّل فرصة للدول العربية المصدِّرة للطاقة لتكسب حصصًا جديدة لكنه يحمل في نفس الوقت مخاطر اندلاع حرب أسعار بين المنتجين للطاقة.
ناصر التميمي
الدول الأوربية تستنجد بالدول العربية لمصدرة للطاقة (الجزيرة)

في غضون أسابيع قليلة فقط بعد اجتياح أوكرانيا، تعرض الاقتصاد الروسي إلى ضربة قوية بفعل العقوبات غير المسبوقة من الدول الغربية، وشعر الرئيس بوتين أن النموذج الذي أسهم في بنائه خلال العقدين الماضيين يتعرض لهجمة شرسة تهدف إلى هدمه أو على الأقل منعه من النمو مستقبلًا. وتحولت روسيا ما بين عشية وضحاها إلى مصدر للطاقة غير موثوق به وغير مرغوب فيه إلى حدٍّ كبير في أوروبا والولايات المتحدة والعديد من الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية.

ومع ذلك، اتضح أن فصل روسيا عن الاقتصاد العالمي بفرض عقوبات شديدة يمثل تحديًا لا يستهان به.

فروسيا تعتبر مورِّدًا أساسيًّا للسلع والمواد الخام، والتي لا يمكن استبدال أي منها بسهولة خصوصًا في وقت تتزايد فيه التوترات الجيوسياسية، وانقطاعات سلاسل التوريد العالمية، وتتصاعد فيه معدلات التضخم العالمية.

علاوة على أن الأزمة الأوكرانية جاءت في وقت كانت فيه المخزونات العالمية من النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم أقل من المعتاد؛ مما أسهم في استمرار تقلب الأسعار وارتفاع الأسعار، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن روسيا تعد اليوم واحدة من بين أكبر ثلاثة منتجين للنفط في العالم، وهي أيضًا أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي في العالم، وثاني أكبر منتج بعد أميركا.

طبعًا التوقعات بالنسبة لمسارات الأزمة المستقبلية، ومدى تأثيرها على أسواق الطاقة العالمية يكتنفها الكثير من الغموض وأجواء عدم اليقين. الوضع ربما يعتمد على درجة تأثير العقوبات الحالية المفروضة على روسيا، وأية عقوبات مستقبلية محتملة. بالإضافة إلى ذلك، فإن درجة استجابة منتجي النفط والغاز الآخرين للأسعار العالمية الحالية، فضلًا عن التأثيرات التي قد تحدثها تطورات الاقتصاد الدولي على الطلب العالمي على واردات الطاقة، ستكون مهمة لتحديد اتجاهات الأسعار في الفترة المقبلة.

لكن من الأمور التي قد باتت في حكم المؤكدة أن أغلب دول الاتحاد الأوروبي تريد الانفصال أو الطلاق طاقويًّا وبشكل نهائي عن روسيا. طبعًا هذا السيناريو في حال حصوله سيكون له تداعيات عميقة وقد يعيد تشكيل خارطة الطاقة العالمية. وهنا، تجادل الورقة بأن الاجتياح الروسي لأوكرانيا وضع العديد من الدول العربية المصدِّرة للطاقة في موقف سياسي ملتبس، لكنه في المقابل عزَّز مركزيتها في اقتصاد الطاقة العالمي، وربما يؤدي في النهاية إلى جني مكاسب سياسية واقتصادية خصوصًا في المديين، القصير والمتوسط.

النفط: طموحات سعودية وإماراتية

يبحث الاتحاد الأوروبي حظر النفط الروسي وتداعياته. طبعًا في حال قرر الاتحاد الأوروبي حظر الخام الروسي، من المرجح أن ترتفع أسعار النفط. وقد يكون لذلك القرار تداعيات عالمية لا يستهان بها قد تبقى آثارها الاقتصادية والسياسية فاعلة لسنوات طويلة قادمة.

تعد روسيا أكبر مصدِّر للنفط في العالم؛ حيث بلغت حصتها حوالي 8 %من الإمدادات العالمية، والاتحاد الأوروبي هو ثاني أكبر مستورد وأكبر مشتر للنفط الروسي في العالم(1). وفي حال توقفت تجارة النفط بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، سوف يجري إيقاف حوالي 3 ملايين برميل في اليوم من إمدادات الخام الروسي وحوالي مليون برميل في اليوم من المنتجات النفطية؛ مما قد يشكِّل صدمة إمداد عالمية(2).

في المدى القريب، تتركز الطاقة الإنتاجية الفائضة في دول منظمة أوبك، خصوصًا السعودية والإمارات، مع ذلك لا توجد مؤشرات حتى الآن تدلِّل على أن دول أوبك بقيادة السعودية على استعداد لاتخاذ إجراء لزيادة الإنتاج فوق الكميات المتفق عليها سابقًا. أحد الأسباب ببساطة هو أنه بعد المعاناة من آثار انخفاض أسعار النفط خلال معظم العقد الماضي ومن التداعيات المالية التي خلَّفتها جائحة كورونا، تتطلع دول أوبك لجني فوائد ارتفاع أسعار النفط(3).

في حين تقدِّر أوبك أن الأسواق العالمية متأثرة حاليًّا بالتفاعلات السياسية أكثر من العوامل الأساسية مثل العرض والطلب، وهو قد ما يقلِّص مساحة الحركة أمام المنظمة. ولعل الأهم أن دول أوبك تريد الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، علاوة على أن دول الخليج، خصوصًا السعودية، لا تملك الرغبة في تقويض التماسك الداخلي لأوبك بلس وتقويض منجزات سنوات من العمل الشاق.

ومع ذلك، قد تكون الصورة مختلفة بعض الشيء في المديين، المتوسط والطويل. تعمل الأزمة الحالية على تغيير سلوك مستهلكي النفط الأوروبيين بشكل كبير، الذين يحاولون تقليل اعتمادهم على روسيا بأي ثمن. لن يحدث هذا بين عشية وضحاها، لكن الاتجاه واضح ويتسارع بفعل الحرب في أوكرانيا. ومثل هذا الوضع قد يوفر لدول الخليج خيار زيادة وجودها في أسواق النفط الأوروبية تدريجيًّا، وبطريقة تتجنب التوترات مع موسكو(4).

كما أن العقوبات الحالية قد تُضعف بشكل كبير القدرات الروسية في الحفاظ على مستويات الإنتاج الحالية؛ حيث باتت شركات الطاقة الروسية معزولة الآن عن التمويل الدولي وتدفقات التكنولوجيا. كل هذا سيعني بالمحصلة أن إنتاج النفط والغاز الطبيعي في روسيا يتجه نحو الانخفاض، وربما أن هذا الأمر -إن حصل- يجعل روسيا أقل أهمية بالنسبة لأوبك مع مرور الوقت(5). لا، بل إن دول الشرق الأوسط نتيجة تغير تدفقات الطاقة العالمية، قد تجد نفسها تواجه في الأسواق الآسيوية هجمة النفط الروسي (أو الغاز المسال) الأرخص ثمنًا(6).

في الحقيقة، يمكن القول: إن الدول الخليجية مثل السعودية والإمارات والكويت ربما تكون مستعدة لهذه التحولات أكثر من غيرها حيث تنمو الاستثمارات الكبيرة في قطاع الطاقة لتحقيق نمو صحي خلال السنوات الخمس المقبلة؛ حيث يناور كبار المنتجين لتوسيع طاقتهم الإنتاجية وسط بيئة أسعار نفط صحية وتعافي الطلب العالمي في أعقاب جائحة كورونا.

وهنا تقدِّر أرامكو السعودية أن نفقاتها الرأسمالية ارتفعت من 27 مليار دولار أميركي في عام 2020 إلى 35 مليار دولار أميركي، مشيرة إلى استمرار النمو (وإن كان أكثر اعتدالًا) خلال السنوات القادمة. وتهدف الشركة لزيادة طاقتها الإنتاجية القصوى المستدامة للنفط من 12 مليون برميل في اليوم حاليًّا إلى 13 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2027(7). وفي مجال التكرير والبتروكيماويات، تؤكد أرامكو أن الأولوية ستكون لإحداث نمو مستمر لدور قطاع البتروكيماويات، الذي طالما اعتبرته الشركة المصدر الرئيسي للطلب المتزايد على النفط الخام في المستقبل. هدف أرامكو المعلن هو زيادة تحويل السوائل إلى الكيماويات لتبلغ 4 ملايين برميل في اليوم(8). وفي هذا السياق، ضاعفت أرامكو استثماراتها الاستراتيجية الخارجية حيث أعادت إحياء مشروع التكرير والبتروكيماويات في الصين، متطلعة نحو منفذ مضمون للصادرات إلى أكبر مشتر للنفط الخام في العالم، بينما يشير الاستحواذ الجزئي لشركة التكرير البولندية إلى طموحات لتأمين حصة أكبر في السوق الأوروبية(9).

في حين تستهدف الإمارات زيادات كبيرة في قدرتها على إنتاج النفط والغاز؛ حيث أعلنت شركة أدنوك المملوكة للدولة عن ميزانية رأسمالية قدرها 127 مليار دولار أميركي خلال الفترة 2022-2026، ارتفاعًا من 122 مليار دولار أميركي خلال 2021-2025. وتستهدف الشركة رفع طاقتها الإنتاجية من حوالي 4 ملايين برميل في اليوم حاليًّا إلى 5 ملايين برميل في اليوم بحلول عام 2030(10). في حين تستهدف مؤسسة البترول الكويتية إنفاقًا لمدة خمس سنوات يبلغ حوالي 65 مليار دولار أميركي، سيدعم جهودها لزيادة طاقتها الإنتاجية من النفط إلى 3.5 ملايين برميل في اليوم في عام 2025، ومن ثمة أربعة ملايين برميل في اليوم في عام 2035 (11).

الغاز: تزايد أهمية قطر والجزائر

وعلى جبهة الغاز الطبيعي، تسعى الحكومات الأوروبية جاهدة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، لكن لا توجد طريقة سريعة لتخلص أوروبا من الغاز الروسي، لذلك تتركز معظم الجهود على الآجال المتوسطة والطويلة لتحقيق هذا الهدف. ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية، استورد الاتحاد الأوروبي 155 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من روسيا في عام 2021، وهو ما يمثل أكثر من 40% من إجمالي وارداته من الغاز(12).

في الواقع، يعتمد الاتحاد الأوروبي على واردات الغاز الطبيعي بنسبة 90% من استهلاكه السنوي(13)، في حين تبلغ سعة استيراد الغاز الطبيعي المسال الممكنة في أوروبا حوالي 157 مليار متر مكعب سنويًّا، وهو ما يكفي لتلبية ما يقرب من 40% من إجمالي الطلب، ولكن في الوقت الحالي يجري استغلال نحو نصف تلك الكمية الاستيعابية للغاز المسال فقط لاعتبارات اقتصادية ولوجستية وجغرافية(14).

يؤكد الأوروبيون أنهم يسعون لتحقيق هدفين رئيسيين: تقليل الطلب على الغاز الطبيعي من روسيا، وتنويع إمدادات الغاز الطبيعي المسال (LNG). فقد أعلن الاتحاد الأوروبي مؤخرًا عن خطته المسماة (REPowerEU) لتقليص مشترياته من الغاز الروسي بمقدار الثلثين قبل نهاية العام الحالي. تركز الخطة على تكثيف مصادر الطاقة المتجددة، وزيادة كفاءات الطاقة، وتنويع مصادر إمدادها بالطاقة(15).

ويبدو أن هذه الخطة طموحة وقد تكون مفرطة في التفاؤل خصوصًا فيما يتعلق بأهداف العام الحالي. وهنا تشير وكالة الطاقة الدولية إلى أنه يمكن للاتحاد الأوروبي أن يزيد من الناحية النظرية تدفقات الغاز الطبيعي المسال على المدى القريب بنحو 60 مليار متر مكعب للعام، لكنها تتوقع أن هذا من شأنه أن يدفع نحو ارتفاع الأسعار لأن الأوروبيين سيزاحمون بقية الدول المستهلكة للغاز على نفس الكميات التي تصدِّرها الدول المنتجة للغاز باستثناء روسيا. وبدلًا من ذلك، تقترح الوكالة 20 مليار متر مكعب للعام كزيادة أكثر واقعية، ولكنها تمثل 13% فقط من إجمالي الواردات الأوروبية في العام الماضي من روسيا(16).

وفي هذا السياق، يبحث الأوروبيون عن مصادر جديدة للإمدادات حيث يسعى الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الواردات من الجزائر وأذربيجان، وتوسيع طاقة خط الأنابيب من النرويج. علاوة على ذلك، من المرجح أن يعتمد الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر على واردات الغاز الطبيعي المسال، مع احتمال أن تصبح الولايات المتحدة وقطر مصدرين رئيسيين للغاز الطبيعي المسال. وهنا تتطلع المفوضية الأوروبية إلى تطوير العلاقات مع العديد من الدول بما يتيح استيراد 50 مليار متر مكعب سنويًّا(17)، رغم أن الحصول على تلك الكمية في العام الحالي لا يعد أمرًا سهلًا.

طبعًا الدخول القوي للاتحاد الأوروبي إلى أسواق الغاز الطبيعي عبر الأنابيب أو المسال قد يؤدي إلى احتدام المنافسة على شحنات الغاز الطبيعي المسال الفورية خصوصًا المتجهة إلى آسيا. وبالمحصلة، ربما يدفع إلى ارتفاع الأسعار أو بقائها ضمن مستويات مرتفعة لفترة أطول. لكن مثل هذا الدخول قد يكون محل ترحيب من الدول العربية المصدِّرة للغاز، مثل قطر والجزائر ومصر وربما لاحقًا ليبيا، لأنه قد يُبقي الأسعار في مستويات جيدة لتلك الدول، علاوة على احتمال زيادة حصصها السوقية في الأسواق الأوروبية.

ويتطلع المشترون الأوروبيون إلى استبدال إمدادات الغاز الروسية؛ مما يشير إلى أن الطلب سيظل مرتفعًا بعد أزمة الإمدادات الفورية التي ضربت القارة العام الماضي. وهناك توقعات تشير إلى أن الاستهلاك العالمي للغاز الطبيعي المسال قد يرتفع بنسبة 60 %مع نهاية العقد الحالي(18).

1. قطر

سلَّطت الحرب الأوكرانية الضوء على دور دولة قطر الرائد في سوق الغاز الطبيعي المسال. ورغم أن غالبية صادرات الغاز الطبيعي المسال في قطر مرتبطة باتفاقيات بيع وشراء طويلة الأجل (SPA)؛ مما يحد من مرونة تحويل الإمدادات إلى عملاء بديلين في غضون مهلة قصيرة، إلا أنه يُتوقع أن تستفيد الدوحة في المدى المتوسط ​​من توجه أوروبا نحو الغاز الطبيعي المسال ليحل محل غاز خط الأنابيب الروسي(19).

بكل تأكيد، الدوحة تعتقد أنها في وضع تفاوضي قوي يؤهلها لأن تصبح أحد المورِّدين الرئيسيين للدول الأوروبية خلال العقد الحالي وربما في العقد القادم. موقع قطر الاستراتيجي وقربها النسبي من آسيا وأوروبا، فضلًا عن انخفاض تكاليف الإنتاج، يعني أنها في وضع تنافسي مرن لتغيير وجهة إمدادات الغاز الطبيعي المسال بين كبار المستهلكين في أوروبا وآسيا. والأهم، يُتوقع أن تنفق قطر عشرات المليارات من الدولارات على مدى السنوات الخمس المقبلة لتوسيع قدرة الإسالة من 77 مليون طن سنويًّا(20) إلى 110 ملايين طن سنويًّا بحلول عام 2025 ومن ثم زيادتها إلى 126 مليون طن سنويًّا بحلول عام 2027(21).

علاوة على ذلك، فإن مشروع “غولدن باس” لتصدير الغاز الطبيعي المسال بولاية تكساس الأميركية والذي تبلغ تكلفته 10 مليارات دولار (تملك قطر 70%، وشركة إكسون موبيل الأميركية 30%)، سيرفع القدرات التصديرية لقطر 15.6 مليون طن من الغاز سنويًّا، ومن المتوقع بدء عمليات التصدير في عام 2024(22). صحيح أن هذا الاستثمار الضخم لن يحل أزمة الغاز في أوروبا على المدى القريب، إلا أنه قد يوفر فرصة لأوروبا لضمان الأمن المستقبلي لإمدادات الغاز من خلال اتفاقيات طويلة الأجل، مع السماح أيضًا بالتنويع على المدى الطويل بعيدًا عن الغاز الروسي.

في العام الماضي، وفرت قطر حوالي 5% من الطلب الأوروبي على الغاز؛ حيث بلغت صادراتها 23 مليار متر مكعب، وفقًا لبيانات “ستاندرد آند بورز غلوبال”(23). وأظهرت البيانات أن أكبر أسواقها كان إيطاليا (6.6 مليارات متر مكعب) والمملكة المتحدة (6.2 مليارات متر مكعب) وبلجيكا (3 مليارات متر مكعب) وإسبانيا (2.7 مليار متر مكعب) وبولندا (2.4 مليار متر مكعب)(24).  ومؤخرًا، خصصت ألمانيا (لا تستورد حاليًّا الغاز الطبيعي المسال) أكثر من 3 مليارات دولار لتأمين أربع محطات عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، في وقت تسعى فيه أكبر قوة اقتصادية في أوروبا لتخفيف اعتمادها على الغاز الروسي(25). كما تتطلع ألمانيا إلى بناء محطتين جديدتين للغاز الطبيعي المسال لاستيراد 8 ملايين طن سنويًّا(26).

بالنسبة لقطر، من المقرر أن تنتهي صلاحية حوالي 4.2 ملايين طن سنويًّا من عقود تصدير الغاز الطبيعي المسال القطرية في عام 2023، تليها 7.9 ملايين طن سنويًّا في عام 2024، مما يوفر نطاقًا كبيرًا لعقود جديدة مع ألمانيا ودول أوروبية أخرى(27). واعتبارًا من عام 2025 فصاعدًا، لن تعاني قطر من نقص في الإمدادات الفائضة، مع بدء تشغيل أول قطار من مشروع توسعة الإسالة الضخم.

يوفر توسع قطر الهائل في قدرتها التصديرية للغاز الطبيعي المسال بحلول عام 2025 فرصة لأوروبا لتأمين إمدادات الغاز الطبيعي المسال على المدى الطويل، على الرغم من أن المنافسة مع العملاء الآسيويين ستظل شرسة. بالفعل تمتلك آسيا أكثر من 350 مليار دولار من المشاريع قيد التنفيذ لتوسيع محطات الغاز الطبيعي المسال ومحطات الطاقة وخطوط الأنابيب التي تعمل بالغاز، أو ما يعادل ثلاثة أضعاف الاستثمار المقدر في أوروبا(28).

وفي هذا السياق، ربما تتطلع الدوحة إلى أن تلتزم دول الاتحاد الاوروبي بـ3 قضايا أساسية لضمان تدفق مستقر ومستدام من الغاز القطري: أولًا: ربما على الاتحاد الأوروبي حظر إعادة بيع أي غاز طبيعي مسال يجري توريده خارج أوروبا لتجنب التنافس مع إمدادات الدوحة المباشرة إلى آسيا أو أي مكان آخر. ثانيًا: أن تغلق المفوضية الأوروبية التحقيقات في قضية مكافحة الاحتكار في عقود الغاز الطبيعي المسال طويلة الأجل لشركة” قطر إنيرجي” والتي كانت مفتوحة منذ عام 2018. ثالثًا: أن توقِّع الدول الأوروبية عقودًا طويلة الأمد، فالدوحة لن تضحي بأسواقها الرئيسية في آسيا من أجل عقود فورية أو قصيرة الأجل(29).

2. الجزائر

تعتبر الجزائر من بين أكبر مورِّدي الغاز لأوروبا باستخدام خطوط الأنابيب العابرة للحدود، والبلاد بمواردها وقربها من أوروبا، في موقع يؤهلها للاستفادة من التوجهات الأوروبية الجديدة في البحث عن بدائل للغاز الروسي. وهنا، تمكن الإشارة إلى أن صادرات الغاز الجزائرية ارتفعت بشكل قياسي بنسبة 43 %في عام 2021 لتصل إلى 55 مليار متر مكعب، توجه أكثر من 80 %منها إلى أوروبا(30).

الجزائر ضخَّت الجزء الأكبر من غازها من خلال 3 خطوط للأنابيب: الأول: “ميدغاز “الذي يمتد تحت مياه المتوسط إلى إسبانيا والذي رُفِعَت مؤخرًا قدرته التشغيلية إلى 11 مليار متر مكعب سنويًّا(31). والثاني: “ترانسميد”، الذي يصل إلى إيطاليا عبر تونس. وكان هناك طريق ثالث قيد التشغيل عبر خط أنابيب الغاز المغاربي-الأوروبي، الذي يمتد إلى إسبانيا عبر المغرب، لكن جرى إغلاقه منذ أن قطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في عام 2021.

تقدر نشرة “ميس” الاقتصادية أن خط أنبوب “ترانسميد” الذي يمر عبر تونس ومن تحت مياه المتوسط وصولًا إلى إيطاليا يملك طاقة احتياطية تبلغ حوالي 9 مليارات متر مكعب(32). وهناك أيضًا 13.6 مليون طن أخرى من سعة تصدير الغاز الطبيعي المسال الجزائرية غير المستغلة (حوالي 17.1 مليار متر مكعب من الغاز) وهو ما يعني بالمحصلة نحو 26 مليار متر مكعب من سعة التوريد الجزائرية الإضافية غير المستخدمة في عام 2021(33). لكن السؤال: هل يستطيع إنتاج الجزائر مواكبة هذه الطاقة غير المستغلة؟

في الواقع، صعد إنتاج الغاز في الجزائر إلى مستوى قياسي بلغ 100 مليار متر مكعب في عام 2021، إلا أن الاستهلاك المحلي قفز أيضًا ليصل إلى حوالي 45% من حجم الإنتاج(34). في حين أن الجزائر، من الناحية النظرية، قد تكون قادرة على زيادة إنتاج الغاز لكنها تحتاج إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وترشيد الطلب المحلي أو استبدال كميات منه عبر ضخ المزيد من الاستثمار بالطاقات المتجددة، علاوة على أنها تحتاج إلى تطوير حقول جديدة لتعويض التراجع الطبيعي المستمر للحقول الجزائرية.

مع ذلك، فإن النظرة المستقبلية على المدى القريب لأسعار النفط والغاز العالمية ترسم صورة أكثر تفاؤلًا للتطورات الجديدة في النفط والغاز، ويمكن أن تقنع العديد من اللاعبين في هذا القطاع بتوجيه استثمارات جديدة نحو الجزائر. على سبيل المثال، أبرمت إيطاليا، التي تعتبر السوق الرئيسية للصادرات الجزائرية، مؤخرًا اتفاقًا لزيادة واردات الغاز من الجزائر بنحو 40% في أول صفقة كبيرة لها لإيجاد إمدادات بديلة في أعقاب الاجتياح الروسي لأوكرانيا(35). من ناحية أخرى، أشار العديد من الشركات إلى إمكانات الطاقة الشمسية الوفيرة للجزائر لتغذية أعمال الهيدروجين الخضراء التي يمكن أن تستفيد من خطوط الأنابيب الحالية(36).

كما اتفقت الجزائر والنيجر ونيجيريا مؤخرًا على بناء خط أنابيب غاز عبر الصحراء يبلغ طوله 4128 كيلومترًا، والذي سيمر عبر البلدان الثلاثة إلى أوروبا بمجرد اكتماله، سينقل خط الأنابيب 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا. لكن وصول المشروع إلى تلك المرحلة سيكلف نحو 11 مليار دولار، وفي حال تمكنت تلك الدول الثلاث من إقناع المشترين الأوروبيين بتمويل المشروع، فإن ذلك يمثل مكسبًا اقتصاديًّا مهمًّا للجزائر(37).

3. الدول العربية الأخرى

ولا يقتصر الامر على قطر والجزائر؛ حيث تعتزم “أدنوك” الإماراتية توجيه استثمارات معتبرة لضخ مزيد من الغاز، متوقعة أن الطلب سيظل قويًّا لسنوات طويلة قادمة. كما تقوم الشركة بتقييم خطط لمضاعفة طاقتها الإنتاجية من الغاز الطبيعي المسال إلى 12 مليون طن سنويًّا أو أكثر من 16 مليار متر مكعب في السنوات الخمس المقبلة(38). وفي ذات السياق، أعلنت “أدنوك” مؤخرًا أنها أبرمت صفقة شراء ناقلتين عملاقتين جديدتين للغاز الطبيعي المسال من الصين، ومن المتوقع أن تنضمَّا إلى أسطولها عام 2025(39).

بالانتقال إلى مصر، من المؤكد أن القاهرة حريصة على زيادة الإنتاج والاستفادة من الطلب الأوروبي المتزايد. ومع ذلك، فإن ارتفاع الطلب المحلي يعني أن هناك كمية أقل من الغاز المتاح للتصدير مما يعيق مثل هذه الطموحات. على المدى الطويل، من المرجح أن تعتمد فرص مصر في زيادة صادرات الغاز إلى أوروبا على التعاون مع الدول المنتجة الأخرى في منطقة شرق البحر المتوسط، ومدى قدرتها على تحويل نفسها إلى مركز خطوط أنابيب في المنطقة، واستغلال طاقاتها المتاحة في مجال تصدير الغاز الطبيعي المسال(40).

ليبيا، وهي مورِّد رئيسي آخر للغاز إلى إيطاليا من خلال خط أنابيب” غرين ستريم” الذي تبلغ سعته 8 مليارات متر مكعب في السنة، لكنها شهدت انخفاض صادراتها إلى 3.2 مليارات متر مكعب، وهو أدنى مستوى خلال عقد من الزمان في العام الماضي مع تزايد الطلب المحلي والانخفاض الطبيعي في الكميات المتاحة للتصدير(41). ليبيا لديها بالتأكيد الاحتياطيات، لكنها لا تزال في الوقت الراهن تفتقر إلى الاستقرار لترجمتها إلى مشاريع جديدة، حتى الإنتاج والصادرات الحالية لا تزال في خطر(42).  على المدى الطويل، تمتلك ليبيا القدرة على إمداد أوروبا وغيرها بمزيد من الغاز حيث تكثف شركتا “إيني” و”بريتيش بتروليوم” جهودهما للتنقيب عن الغاز ومساعدة ليبيا في تشكيل استراتيجية للغاز(43).

نظرة مستقبلية

من المتوقع أن تفاقم التقلبات الشديدة في أسعار الطاقة حالة عدم اليقين بشأن الاستثمار والاستهلاك. فقد يؤدي الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز إلى آثار معاكسة على المدى الطويل. من ناحية أخرى، قد يحول الاستثمارات مرة أخرى إلى الصناعات الاستخراجية وتوليد الطاقة القائمة على الوقود الأحفوري، لكن يمكنه أيضًا تسريع التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة أو النظيفة في مناطق عديدة من العالم. إجمالًا، إن الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة، وارتفاع معدلات التضخم، والاضطرابات في سلاسل التوريد، والتقلب الشديد وعدم القدرة على التنبؤ بأسعار السلع الأساسية يجعل توقعات الاستثمارات الرئيسية أكثر غموضًا.

يتطلب الإنفاق على التقنيات الجديدة الأكثر مراعاة للبيئة نفقات رأسمالية كبيرة وستكون أقل جاذبية في وقت تتزايد فيه المخاطر بشكل خاص على أسعار المدخلات الرئيسية. والأهم أن الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها السياسيون من قبل الناخبين، خصوصًا في دول مثل الولايات المتحدة والعديد من الدول الصناعية، ربما تدفعهم بطريقة أو أخرى نحو دعم الاستثمار في الوقود الأحفوري وتأخير برامج التحول نحو الطاقة المتجددة، وهو سيناريو قد يصب في النهاية في صالح الدول العربية المصدِّرة للطاقة.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1) McWilliams, Ben, Sgaravatti, Giovanni, Tagliapietra, Simone  & Georg Zachmann, Georg, Can Europe manage if Russian oil and coal are cut off? 17/03/2022, (Accessed: 04/04/2022), https://cutt.ly/9FvWggj

2) المصدر السابق.

3) Tuvey, Jason, The war in Ukraine and Saudi oil policy, Capital Economics, 11/03/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/RFWeknE

4) Kozhanov, Nikolay, How will the war in Ukraine affect Gulf oil producers? Middle East Institute, 04/03/2022, (Accessed: 04/04/2022), https://cutt.ly/wFbC7fv

5) The Economist, Daniel Yergin on Russia losing its status as an “energy superpower,” 23/3/2022, (Accessed: 06/04/2022), https://cutt.ly/MFvOrjy

6) المصدر السابق.

7) Business Monitor Online, GCC Players Get A Head Start In The Race To Decarbonise, 30/03/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/KFYK7hi

8) Dunkley, Clare, Aramco ready to splash cash upstream, Petroleum Economist, 25/3/2022, (Accessed: 04/04/2022) , https://cutt.ly/fFvbXfZ

9) المصدر السابق.

10) Business Monitor Online, “GCC Players Get A Head Start In The Race To Decarbonise”, مصدر .سابق

11) المصدر السابق.

12) MEES, Europe Targets LNG As Ukraine Conflict Forces New Energy Security Paradigm, 01/04/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/VFnRgN1

13) Business Monitor Online, What Our Clients Want To Know: Shifting Oil & Gas, 6/4/2022, (Accessed: 07/04/2022), https://cutt.ly/zFvzxqc

14) Business Monitor Online, Europe Oil & Gas Key View, 29/3/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/mFbnfgd

15) European Commission, REPowerEU: Joint European Action for more affordable, secure and sustainable energy, https://cutt.ly/RFLVpUm, 08/3/2022, (Accessed: 7/04/2022), https://cutt.ly/RFLVpUm

16) MEES, “Europe Targets LNG As Ukraine Conflict Forces New Energy Security Paradigm”, مصدر سابق

17) European Commission, “Questions and Answers on REPowerEU: Joint European action for more affordable”, مصدر سابق

18) Bloomberg, UAE’s Adnoc Buys Gas Tankers From China as Part of LNG Push, 12/04/2022, (Accessed: 12/04/2022), https://cutt.ly/AFW1o5G

19) Business Monitor Online, Qatar LNG Can Do Little To Alleviate Europe’s Energy Crisis Over Near Term, 30/03/2022, (Accessed: 09/04/2022), https://cutt.ly/UFnGLvP

20) مليون طن من الغاز الطبيعي المسال يعادل نحو 1.36 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، انظر: : https://cutt.ly/DFZKDMp

21) Business Monitor Online, “GCC Players Get A Head Start In The Race To Decarbonise”, مصدر سابق

22) MEES, Europe Targets LNG As Ukraine Conflict Forces New Energy Security Paradigm, 01/04/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/VFnRgN1

23) Carpenter, Claudia, and Gordon, Meghan,  Feature: Qatar leverages its LNG goals with gas diplomacy amid war, S&P Global, 12/04/2022, (Accessed: 12/04/2022), https://cutt.ly/vFIsxTg

24)  المصدر السابق.

25) Deutsche Welle, Germany earmarks €3 billion for floating LNG terminals, 14/04/2022, (Accessed: 14/04/2022), https://cutt.ly/fFL59s8

26) MEES, ” Europe Targets LNG As Ukraine Conflict Forces New Energy Security Paradigm”, مصدر سابق

27) المصدر السابق.

28) Bloomberg, Asia’s $350 Billion Gas Buildout Stirs Energy Debate, 05/04/2022, (Accessed: 12/04/2022), https://cutt.ly/dFYlgtD

29) See: Business Monitor Online, Qatar LNG Can Do Little To Alleviate Europe’s Energy Crisis Over Near Term, 30/03/2022, (Accessed: 09/04/2022), https://cutt.ly/UFnGLvP and Kozhanov, Nikolay, Qatar is no short-term savior, but it may still play a role in strengthening EU energy security, Middle East Institute, 07/02/2022, (Accessed: 09/04/2022), https://cutt.ly/uFnFkvS

30) MEES, Europe Looks To Algeria For Gas Amid Russia-Ukraine War, 04/03/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/fFZMylx

31) Business Monitor Online, Supply Concerns In Europe Pose Upside Risks To Algerian Gas Output & Exports, 01/03/2022, (Accessed: 03/04/2022), https://cutt.ly/1FIqKIy

32) MEES, “Europe Looks To Algeria For Gas Amid Russia-Ukraine War”, مصدر سابق

33) المصدر السابق.

34) MEES, Algeria Smashes Gas Output Record For 2021, Can It Keep It Up? 25/03/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/pFZM7au

35) Reuters, Italy clinches gas deal with Algeria to temper Russian reliance, 11/04/2022, (Accessed: 11/04/2022), https://cutt.ly/4FnMk0k

36) MEES, “Europe Looks To Algeria For Gas Amid Russia-Ukraine War”, مصدر سابق

37) Fox, Benjamin, Where is the cash for Europe’s dash for gas? 01/03/2022, (Accessed: 03/04/2022), https://cutt.ly/RFU6Xys

38) Bloomberg, “UAE’s Adnoc Buys Gas Tankers From China as Part of LNG Push”, مصدر سابق

39) المصدر السابق.

40) DeLay, Jennifer, Can the EU replace Russian gas with North African supplies? bne IntelliNews, 23/03/2022, (Accessed: 11/04/2022), https://cutt.ly/3FYvQEU

41)MEES, North Africa Gas Exports To Europe Fall Amid Russian Uncertainty, 08/04/2022, (Accessed: 10/04/2022), https://cutt.ly/GFnYcku

42) المصدر السابق.

43) DeLay, Jennifer, “Can the EU replace Russian gas with North African supplies?”, مصدر سابق

Exit mobile version