طرابلس تسبق بقية لبنان… إلى “الانهيار الكبير”

المصدر: أساس ميديا

طرابلس تسبق بقية لبنان… إلى “الانهيار الكبير”

لم يكن غرق مركب المهاجرين في طرابلس وموت عددٍ من ركّابه حدثاً مستغرَباً في سياق الانهيار الاقتصادي الذي نُكبت به غالبيّة اللبنانيين، لكنّه الشكل الأفظع للمأساة الاجتماعية الآخذة بالتفاقم يوماً بعد يوم على مدى سنتين ونصف.

لم يكن مستغرباً أيضاً أن تقع هذه الفاجعة في طرابلس المدينة المنكوبة منذ سنوات، والتي عمّق الانهيار نكبتها، كأنّه مكتوبٌ لها أن تدفع الضريبة الكبرى من جرّاء فساد الدولة وتفكّكها وتعطّل وظائفها الاجتماعية، وكلّ ذلك بسبب خطف قرارها واستباحة سيادتها وتحويلها دولة فئوية تقوم على المحسوبيّات السياسيّة والطائفية.

 عليه فإنّ حال طرابلس قبل الانهيار كانت مؤشّراً إلى أنّ الانهيار واقع حتماً. فمن غير الممكن أن يستمرّ لبنان في السير بمسارين. فمن ناحية كانت هناك مناطق تزدهر بسرعة وتتوسّع فيها مظاهر الرفاه، ومن ناحية أخرى كانت مدينة بحجم طرابلس تغرق أكثر فأكثر في الفقر والحرمان، حتّى صُنّفت أفقر مدينة على المتوسّط.

كان لا بدّ لهذا التناقض أن ينفجر، وقد انفجر فعلاً. لكنّ المستغرَب والمستفزّ الآن أنّه في ظلّ الانهيار لا يزال هناك مساران اجتماعيان – اقتصاديان في البلد. فبينما يمكن رؤية المطاعم والمقاهي في العديد من المناطق ممتلئةً وكأنّ “البلد ماشي”، تضيق سبل العيش ببعض اللبنانيين إلى حدّ سعيهم إلى ركوب البحر والهروب ولو إلى المجهول.

ليس هذا التناقض جديداً على لبنان، فحتّى في زمن الحرب كان هناك تفاوتٌ بين المناطق، وحتّى ضمن المدينة نفسها، وبين الناس. وهو تفاوت شكّل السمة الأبرز لاقتصاد الحرب. أمّا الآن فإنّ اقتصاد الانهيار آخذٌ في التشكّل والاستقرار، ويوماً بعد يوم تتحدّد قوانينه وشروط الدخول إليه والتمتّع بجنّته.

في ظلّ وضع كهذا يصبح أيّ مظهر من مظاهر “الازدهار” في البلد مشبوهاً. حتّى السياحة التي تُعدّ قطاعاً تشغيليّاً للعديد من العائلات والأفراد، وتستقطب عملة صعبة إلى البلد المفلس، لا يمكن مقاربتها في ظلّ الانهيار من دون إعادة طرح الأسئلة عن الاختلال الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي، ومن دون التفكير في طبيعة هذا الانهيار ومآلاته ونتائجه الديموغرافية والاجتماعية – الاقتصادية.

إذ كيف يمكن أن تعود “الحياة” إلى هذا القطاع بينما تنهار قطاعات حيوية كالقطاع الصحّي، وقد باتت الغالبية اللبنانية بلا تغطية صحيّة، فيما تتوالى تقارير المنظمات الدولية عن ارتفاع نسب سوء التغذية عند الأطفال والوفيات عند النساء الحوامل اللواتي لا يحصلن على العناية اللازمة.

 

مفارقة الانتخابات

عند هذه التقاطعات الخطيرة والمفارِقة تحصل الانتخابات النيابية بوصفها أعلى مراتب “المعجزة اللبنانية” الكارثية. ففي ظلّ الوضع الراهن كان يُفترض أن تكون هذه الانتخابات “ثورية” بكلّ معنى الكلمة، فلا تحمل في طيّاتها أيّ تكرار لمشهد انتخابات ما قبل الانهيار، أو بالحدّ الأدنى ألّا تغلب عليها مواصفات انتخابات ما قبل الانهيار.

وهذا أمرٌ من المفترض أن يكون بديهيّاً بالنظر إلى حجم الأزمة – المأساة التي كان يُتوقَّع أن تحوّل الانتخابات إلى فرصة حقيقية لتصفية الشعب حساباته مع المرحلة السابقة بخطابها ورموزها من الأحزاب والسياسيّين. فإذا بالانتخابات تشكّل فرصة لهؤلاء لتجديد خطابهم وشرعيّتهم فوق جثث اللبنانيين ومستقبلهم الصريع. وهذا إن دلّ على شيء فعلى عمق الأزمة اللبنانية واستعصاءاتها لا بسبب الانهيار بذاته، وإنّما بسبب عدم تمخّض هذا الانهيار الهائل عن تغيير جذري في قواعد السلوك السياسي للمجتمع.

هنا يُطرح السؤال عن ماهيّة التغيير الذي تحفل به الخطابات والوعود الانتخابية كما الأدبيّات الدولية حيال هذه الانتخابات. فالتغيير الحقيقي كان من المنتظر أن يحصل في “طريقة” إجراء الانتخابات قبل أن يكون نتيجة لهذه الانتخابات. لقد كان من الطبيعي أن تحصل هذه الانتخابات في سياق انتفاضة 17 تشرين 2019 كأمر واقع مفروض من تحت إلى فوق، لا أن تأتي لتطوي صفحة الانتفاضة الشعبية ولو كان بين المشاركين في هذه الانتخابات أشخاص من رحم هذه الانتفاضة.

عليه فقد كان من المفترض أن تحصل انتخابات نيابية مبكرة تعكس سقوط الشرعية الشعبية للحكم المتسبّب بتخريب حياة اللبنانيين، لا أن تحصل الانتخابات في موعدها بعد سنتين ونصف على وقوع الانهيار وكأنّنا في مسار سياسي ودستوري عاديّ جدّاً.

لذلك فإنّ هذه الانتخابات هي بمنزلة تطبيع مع الوضع القائم بموازين قواه الحالية التي يتحكّم بها حزب الله الذي كان أوّل المندفعين إلى قمع الانتفاضة الشعبية حمايةً للسلطة القائمة. هكذا بات سؤال التغيير سؤالاً متأخّراً، لكن على الرغم من ذلك فإنّ عدم حصول تغيير سياسي حقيقي خلال الانتخابات يجب أن يكون محفّزاً للتفكير في أسباب محدودية التغيير في هذه الانتخابات، وقبل ذلك للتفكير في معاني التغيير وإمكاناته وآليّاته في ظلّ الوضع الراهن الذي يمكن تلخيصه بمستويين رئيسيَّين:

الأوّل: قدرة حزب الله المستمرّة على استخدام سلاحه في اللعبة السياسيّة وفي المجال اللبناني العامّ، وهو ما يمكّنه من السيطرة على القرار السياسي والأمني والاقتصادي للدولة فيكيّفه بحسب أجندته ومصالحه الفئوية، متسبّباً بأنواع جديدة من اللامساواة بين اللبنانيين.

والثاني: الاستعداد الداخلي والخارجي للتطبيع مع سلاح الحزب بذريعة أنّه أمرٌ واقعٌ لا يمكن تغييره. فبدلاً من أن يلبّي الحزب الشروط الوطنية للاجتماع اللبناني تصبح تلبية شروط الحزب معياراً للوطنية وللعقلانية السياسية، وذلك بحجّة أنّ تلبية شروطه تجنِّب البلد حرباً أهليّة.

ينتج عن هذين المستويين مستوى ثالث هو ثمرة التواطؤ الداخلي والخارجي مع فكرة “التطبيع” مع سلاح الحزب، بحيث يتمّ إنتاج “طبقة سياسيّة” طيّعة بيده على أن تحظى بالغطاء الدولي الكافي لتباشر الإصلاحات المقرّرة لوقف الانهيار. يجعل هذا الواقع الإصلاحات رهن صلاحيّة هذا التواطؤ ونجاحه، ولذلك ستكون خاضعة للاعتبارات السياسيّة لأطرافه، وستتعرّض للانتكاسة عند أيّ مطبّ سياسي داخلي أو خارجي. هذا فضلاً عن أنّ أشكالاً أخرى من هذا التواطؤ كانت ماضياً سبباً رئيسياً في وقوع الانهيار.

انطلاقاً ممّا سبق، تشكّل الانتخابات الطريق الأسلم إلى تحقيق هذه الأجندة الداخلية – الخارجية، ولو كان تحقيقها بمنزلة إبراء ذمّة للسلطة وللقوى السياسية الرئيسية المسؤولة عن تدمير حياة غالبية اللبنانيين وقتلهم على أبواب المستشفيات وفي البحر هرباً من “جهنّم”.

 

لكن في المقابل تمنح هذه الانتخابات، بما هي الانعكاس الأصفى للأزمة، فرصة مهمّة وربّما أخيرة للتفكير في أسباب هذه الأزمة التي هي نفسها الأسباب التي تحول دون التغيير الحقيقي في المسار السياسي والاقتصادي – الاجتماعي في البلد. لقد استبق انهيار طرابلس انهيار لبنان كلّه، ولقد أتى غرق مركب المهاجرين بطرابلس ليذكّر بحقيقة الواقع اللبناني بما هو واقع مأساوي لا يغطّيه انتعاش السياحة ولا الانتخابات!

Exit mobile version