كشفت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حجم تضارب المصالح بين الدول خاصة تلك التي تقف منذ سنوات إلى جانب الولايات المتحدة في الضفة نفسها وتنفذ مشاريعها. فبعد ما يمكن ان يسمى “إعادة التموضع” ونسج العلاقات التي شهدتها مرحلة ما بعد انسحاب واشنطن من أفغانستان ثم من العراق، والزيارات المكوكية الإماراتية لعدد من دول المنطقة وعلى رأسها إيران وسوريا، برز حياد أبو ظبي حيال الأزمة الأوكرانية، وامتنعت عن التصويت لصالح واشنطن في مجلس الأمن، ما يكشف عن نيتها استثمار العقوبات على روسيا خاصة لجهة استفادة الأخيرة من النظام المصرفي بعد العقبات التي ستواجهها بنظام سويفت المالي العالمي.
صحيفة معاريف أشارت في مقال لها إلى ان حلفاء الولايات المتحدة “يرون ضعف الاهتمام الأمريكي في الشرق الأوسط في صالح تحديات عالمية شديدة القوة… والامارات بحاجة لجرف صامد تستند عليه كروسيا”. معتبرة ان “المال الروسي بحاجة إلى منظومة بنكية كي يعمل في داخلها؛ ليستثمر، ويحفظ المال ويعقد الصفقات، والحديث يدور عن عشرات مليارات الدولارات التي تبحث عن بيت في الفترة القريبة القادمة. في هذا السباق، تبدو الإمارات هدفاً مفضلاً على جيرانها في الخليج”.
النص المترجم:
كانت شائقة متابعة سلوك “إسرائيل” في الأسابيع الأخيرة إزاء أزمة أوكرانيا، خصوصاً بعد سيرها بين القطرات واجتهادها بألا تغضب الروس من جهة، وإرضاء بايدن من الجهة الأخرى. ولكن الشائق أكثر هو النظر إلى سلوك شقيقتنا الإمارات. بخلاف “إسرائيل”، أبو ظبي هي عدو في مجلس الأمن في الأمم المتحدة، والجمعة الماضي، بعد يوم من نشوب الحرب، انعقد المجلس لشجب روسيا.
انقسام المصوتين في مثل هذه المحافل كفيل بأن يوفر أحياناً صورة مثيرة للاهتمام عن موازين القوى، وهذه المرة كانت مثيرة على نحو خاص: أولاً، لأنها كشفت التناقض الكامن في مجلس الأمن مرة أخرى: لن يشكل المجلس منصة لشجب واحد من أعضائه الدائمين، وذلك لسبب بسيط بأنه يمكنه استخدام حق النقض الفيتو.
15 دولة هي أعضاء في هذا الجسم، منها 5 دائمون و10 متبدلون. الخمسة الدائمون هم أولئك الذين أسسوا مجلس الأمن: روسيا والولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا، ولكل منها حق الفيتو على كل قرار مهما كان، حتى لو كانت هي التي تقف في مركز الحدث. بمعنى أنه إذا ما أرادت الصين مثلاً أن تشن حرباً، فإن مجلس الأمن لن يتمكن من شجبها لأنها هي نفسها ستستخدم الفيتو على مشروع القرار.
عندما تنجح قوة عظمى ما في القفز عن هذا العائق، فإنها تتلقى مسوغاً لأفعالها ضمناً. من حق مجلس الأمن أن يعطي ضوءاً أخضر لشن الحرب. هكذا فعل في حالة القذافي في ليبيا، حين سمح للائتلاف العسكري الغربي والعربي الخروج لإسقاطه، وفي حالة صدام في 1991 الذي أقيم ضده حلف عربي وغربي بأمر من الولايات المتحدة. أما اليوم، فإذا كان بانتظار موسكو خطر، فهو يكمن في مبادرة ذاتية لدول الناتو، لكن هذا بحث منفصل.
الإمارات عضو مؤقت في مجلس الأمن في ولاية من سنتين. قريباً سيكون مندوبها الرئيس الدوري. بعيداً عن البيت، أبو ظبي، تردد محمد بن زايد فيما سيأمره به مندوبه أن يفعله؛ فالتصويت لم يقع عليه مفاجئاً. مثل الجميع، أخذ بحسبان أن احتمالات الحرب عالية، وأن الشجب سيعرض على مجلس الأمن فوراً. كان لديه وقت معقول كي يقرر ما يفعله. وهو يعرف بالفيتو المرتقب، لكن النتيجة النهائية أقل أهمية في هذه الحالة. الأهم منها هو الطريق الذي وصلوا إليه. 11 دولة شجبت روسيا، ولم تكن الإمارات بينها. فقد قررت الامتناع.
بن زايد يلمح لبوتين
في التصويت الذي جرى في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والذي تُعرض فيه روسيا للشجب، سمحت أبو ظبي لنفسها بتحرير الحبل وصوتت ضد موسكو. أغلبية ساحقة من 141 دولة، قالت “لا” للغزو الروسي. لكن الجمعية العمومية ليست سوى ساحة تصريحات، وخريطة توضح انقسام القوى ليس إلا. ومن بين الهيئتين، فإن مجلس الأمن هو الأهم وصاحب الصلاحيات. عدد أعضائه محدود، وكل حركة أو قرار لمندوب ما يحظى ببروز زائد.
محللون لشؤون العالم العربي، سواء في الدول المختلفة، والأكاديميا ووسائل الإعلام، انقسموا فيما بينهم هذا الأسبوع بخصوص الملابسات التي دفعت بن زايد لجلوس على الجدار. فمثل هذه القرارات تخفي فقاعة من المبررات المتداخلة. طرحت تفسيرات عديدة، كلها صحيحة أغلب الظن. شهد الشرق العربي في السنة الأخيرة انسحاب القوات الأمريكية المنطقة بتعاظم أكبر. فقد تركت واشنطن سوريا بسيطرة موسكو، وفرت من أفغانستان. ويرى معظم زعماء الخليج البيت الأبيض مانح أساس لرعايتهم، ولكن في السنوات الأخيرة، انغرست في قلوبهم شكوك حول رغبة أمريكا في مواصلة بسط النفوذ على المنطقة. وهم يرون ضعف الاهتمام الأمريكي في الشرق الأوسط في صالح تحديات عالمية شديدة القوة، مثل الصين ومشكلة المناخ. كل هذا الزمن تسعى روسيا لتدق أوتادها في المنطقة. وهذه الإمارات، التي بعضها غنية وقوية، بحاجة إلى جرف صامد. وإذا كانت روسيا هي هذا الجرف، فمن الأفضل السير بحذر نحوها.
لو كان له حق اختيار، لأخذ محمد بن زايد بايدن في حضنه، ولكن لإحساسه، وكذا لإحساس جيرانه، فإن أميركا بايدن تراوح بين التصميم والتلعثم؛ فهي مصممة في كل ما يتعلق بحكم الإنسان واحتلال دولة ما من قوة عظمى مجاورة، ولكنها ضعفت في محبتها للعب دور مركزي في المنطقة. على الطاولة صفقة شهيرة لبيع طائرات قتالية متطورة من طراز اف 35، وعد بها كجزء من اتفاقات إبراهيم. إما إدارة بايدن، فترجئ تنفيذ الصفقة بسبب الاتصالات القريبة بين الإمارات والصين. رجالها يخشون انكشاف أجهزة متطورة في الطائرة أمام خبراء الاستخبارات الصينيين. الإمارات بحاجة إلى هذه الطائرات، وليس في نيتها إحراق علاقاتها مع بايدن خصوصاً في وقت تجري فيه اتصالات حساسة للحصول على الطائرات. ولكن من جهة أخرى، يغمزها الإغراء الروسي.
لقد وقع هذا الإغراء على الجميع فجأة بسبب الحرب. بوتين ورجاله استعدوا للمعركة لأشهر طويلة. وهناك من سيقول لسنوات. وقد أخذوا بالحسبان كل سيناريو متطرف، بما في ذلك الصدام مع جيوش الناتو. وأخذوا بالحسبان أن الغرب سيعمل على قطعهم عن نظام التحويلات المالية العالمية. هذا النظام الذي يسمى “سويفت” هو اليوم الوسيلة الأكثر أمناً وقبولاً لتحويل الأموال بين الدول والقارات. وإخراج روسيا منه يقلص الاتصال دراماتيكياً بين المستثمرين والبنوك الروس وسوق النقد العالمي.
لقد أدرك زعماء إمارات الخليج الإمكانية الكامنة في ذلك. المال الروسي بحاجة إلى منظومة بنكية كي يعمل في داخلها؛ ليستثمر، ويحفظ المال ويعقد الصفقات، والحديث يدور عن عشرات مليارات الدولارات التي تبحث عن بيت في الفترة القريبة القادمة. في هذا السباق، تبدو الإمارات هدفاً مفضلاً على جيرانها في الخليج. لأنها دوناً عن غيرها، ذات نظام مالي حكومي هو الأقوى والأكثر تنظيماً. مستوى البيروقراطية المتبعة فيه متدن نسبياً، وبنوكها محررة من اضطرابات فقهية، وعلى رأسها حظر الربا.
بن زايد يدرك هذا، ومستعد لاستيعاب المال الكبير. وإذا كان بعض من رقيقي الروح من واشنطن سيمتعضون، فكيف قال مناحيم بيغن في هذا السياق حسناً، عندها ستكون لهم وجوه حانقة. وليس هذا فقط. بل ستكون الورقة التي في يديه رافعة ضغوط على البنتاغون والبيت الأبيض لتحرير الطائرات القتالية المنشودة. فالامتناع في التصويت يوم الجمعة، استهدف التلميح لبوتين بأن أمامه ما يمكن الحديث فيه.
ليس صدفة أن سعر النفط الخام ارتفع هذا الأسبوع ويقرب من 120 دولاراً للبرميل الواحد. روسيا موردة غاز ونفط لدول الغرب، وفي قطعهما عنها، تحتاج هذه الدول لمورد بديل. فبغبائه، أسقط الغرب القذافي في 2011 رغم أنه كان قد ورّد النفط النوعي لـ 16 دولة أوروبية بثمن متدن ودون حاجة إلى نقل طويل المدى وباهظ الثمن. ولكن القذافي في عالم كله خير، لا بد أن يروج لهم كيف عليهم أن يتصرفوا في كل أمر. وبلاده وإن كانت تقف أمام نافذتهم، فإنها منقسمة وممزقة. هي أيضاً، مثل أوكرانيا، وسوريا، والعراق، واليمين، تحولت إلى ساحة صراع بين قوى عظمى إقليمية تنبش فيها من بعيد، كل منها حسب احتياجاتها. “النفوذ”، تلك الكلمة التي قل استخدامها منذ سقوط الستار الحديدي، عادت لتتصدر الخطاب مع إطلاق الرصاصة الأولى في أوكرانيا.
المصدر: معاريف
الكاتب: جاكي خوجي