لا يمكن وسم بيان الخارجية اللبنانية حول الاجتياح الروسي لأوكرانيا بالتهوّر، ولا يمكن وسمه بالمبدئية كذلك. هو بيان صدر في محاولة لاستمالة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية الناتوية. في الحقيقة، جاء البيان بطلب واضح وصريح من هذا الفريق إلى ملعب أركان السلطة في لبنان. وقد تجلى ذلك في زخم التأييد التي أعقبه وعدد الزيارات التي قام بها سفراء الغرب للرئاستيْن الأولى والثالثة ووزير الخارجية عبدالله بو حبيب.
عودة إلى الوراء
قبيل وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها بأشهر قليلة في العام 1945، أعلن لبنان – بنصيحة فرنسية غربية- الحرب على اليابان وألمانيا. وكان الهدف جلوسه على مقاعد المنتصرين. حينها، كانت الخطوة محسوبة ومندرجة في سياق انخراط لبنان في المؤسسات العالمية ومنتدى الأمم المتحدة، كما أنّها تزامنت مع توقيت رمزي أكثر منه مشاركة في اتخاذ موقف قتالي أو انحيازي في حرب عمد أحد أطرافها إلى استخدام السلاح النووي لإنهائها.
وعليه، لم تندرج هذه الرمزية في إطار المغامرة ولا المقامرة، بل في اقتناص فرصة مشروعة في السياسة. ونتيجة لذلك، لم تحدث أي انقسام داخلي، ولو أنّها تسبّبت بمرارة لمن كان يراهن على فوز هتلر، وهم قلة.
واليوم، لا يُفهم الموقف اللبناني بأنه مبدئي، فأمام كل الاعتداءات التي طالت دولاً وشعوباً في الشرق والغرب، لم ينخرط لبنان في أيّ حرب ولم يقف إلى جانب معتدٍ أو معتدى عليه، إلاّ ضمن الأطر العربية والأممية الشاملة.
تناقض كامل بين لبنان وسوريا
يمكن الوقوف عند نقطة أخرى في البيان اللبناني، وهي تنطوي على التناقض الكامل بين الموقفيْن اللبناني والسوري، حيث أيّدت دمشق موسكو بشكل مفرط بلغ حدّ اعتبار الرئيس السوري بشار الأسد أنّ نظيره الروسي فلاديمير بوتين إنّما يصحح التاريخ عبر دخوله أوكرانيا مجتاحًا. ويؤكّد موقف دمشق هذا رغبة الأسد في الدوران بفلك روسي صرف من جهة، وتحوّل سوريا إلى قاعدة روسية إلى حدٍ أبعد من كونها قاعدة إيرانية، من جهة ثانية. فمن جانبها، أصدرت إيران بيانًا ملطفًا، وهي لم تدن اجتياحًا ولم تندفع في تأييده، لأن الموضوع بالنسبة إليها شديد الحساسية، فمن شأن الاندفاع في تأييد الاجتياح أن يسمح لأعدائها بالارتكاز على موقفها هذا، إذا ما قرروا شن هجوم عليها.
بدورها أيضاً، أصدرت الجامعة العربية بيانًاً عبّرت فيه عن قلقها من أحداث أوكرانيا، وأيّدت الجهود الرامية إلى حل الأزمة من خلال الحوار والديبلوماسية، داعيةً إلى “تخفيف حدة التوتر والشروع في التهدئة وضبط النفس”.
في ما يتعلّق بموقف أنقرة، فقد استعادت ذاكرة الأتراك الجماعية لعنة الجغرافيا واضطرار تركيا إلى الانخراط في الحرب العالمية الأولى، في حين كانت تفضل النأي بالنفس حفاظًا على مصالحها. واتخذ موقف أنقرة طابعًا دقيقًا ومحسوبًا للغاية لتداخل عناصر مختلفة، فتركيا المطلة على البحر الأسود، عضو في الناتو، وتجارتها مع روسيا أساسية، أضِف إلى ذلك أنّه من الأفضل لها أن تطرح وساطتها لإنهاء الحرب بدل اتخاذ موقف منها. مسألة الوساطة تنطبق على إسرائيل أيضاً، فهي مربكة جراء الاتفاق النووي، ووجود ما لا يقل عن مليون روسي يحمل جنسيتها.
ماذا وراء البيان اللبناني؟
يعتمد لبنان بقراره الرسمي على فكرة إرضاء الغرب، الممسك بقرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبناصية العقوبات على الأفراد والجماعات. ويعتمد أيضًا على استدعاء هذا الغرب للتخفيف من ضغوطه على النخبة الحاكمة الجاهزة لتصدير المواقف، وفقًا لحاجاتها بالدرجة الأولى ومصلحة اللبنانيين بالدرجة الثانية.
ويعيدنا هذا السياق إلى ملف الترسيم البحري وإسقاط رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الخط 29 بعدما كان قد تبناه. وقد اعتمد عون مرجعية الخط 23 لإنهاء الملف، وحماية وريثه السياسي الأوحد، الوزير السابق جبران باسيل، إذ أوفده للقاء المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، حسب ما أقر الأميركيون، وإلى الدوحة لاستكمال محادثات التنقيب عن الغاز برغبة أميركية.
أمّا الرئيس نجيب ميقاتي، فهو يريد تعزيز علاقاته مع الغرب، في حين أنّ بو حبيب معروف منذ تسميته وزيراً، بميله إلى تأييد الغرب.
هل يمكن للبنان أن يحقق مكاسب من خلال هذا الاصطفاف؟
في وسم البيان اللبناني بالمبدئي وليس السياسي انتماءٌ إلى المدرسة الرومانسية. ولا ينتمي أي من القادة اللبنانيين إليها، ولم يدّعِ أحد منهم ذلك أصلاً. أمّا في القول إنّ البيان اصطفاف مع الحق، فهو غير مقنع أيضاً. فعلى الرغم من اعتداء روسيا عسكريًا على دولة جارة، يقول الروس إنّ ظروف المنطقة ومحاولة حصار موسكو واحتوائها دفعهم بعد سنوات من عدم الانخراط في حرب إلى خوضها لأسباب وجودية، كما يقولون.
مما لا شك فيه أنّه كان يتعيّن على السلطة اللبنانية في صياغة بيان الخارجية، أخذ وزن روسيا الكبير في الشرق الأوسط والعالم العربي من مصر إلى السعودية والجزائر بالاعتبار. إذ تتمتع روسيا اليوم بنفوذ أكبر بالمقارنة مع الاتحاد السوفياتي، كما يقول الصحافي والمحلل الفرنسي ألان غريش.
ومما لا شك فيه أيضاً أنّ الولايات المتحدة قد اتخذت قراراً صارمًا بعدم التدخل العسكري في حرب أوكرانيا، حتى أنّها تعتبر أنّها بذلت ما بوسعها لمساعدة السلطة هناك. أمّا أوروبا، فقد دخلت في مرحلة تعزيز أمنها الذاتي وحماية وحدتها الاقتصادية والاقتناع بأنها مجتمعة باتت كيانًا متوسط القوة.
وهذه العناصر مجتمعة تعني أنّ الكلّ بات ينتظر سقوط أوكرانيا في الفلك الروسي سياسيًا ويتطلع إلى مرحلة ما بعد نهاية هذه الحقبة.
من المؤكّد أنّ العالم ما بعد اجتياح أوكرانيا لن يكون كما كان عليه قبلاً، وأنّ موقف لبنان الرسمي لن يكون ذا جدوى كبيرة على مصلحة الشعب اللبناني الجمعية، أو على حصوله على دعم يترجم مساعدات لنهوضه أو اصلاح اقتصاده. يتمحور الحديث الدائر اليوم عمن سيفتش لنا عن قمح وبعض المشتقات النفطية، بعد محاولات إيجاد مصادر طاقة من الأردن ومصر، ولو استغرق ذلك وقتًا طويلاً.