الربيع الروسي..لتغيير عناويين ووجه أوروبا الجديد
– بقلم د. أبو العباس
– وكالة نيوز
الحرب العالمية الثالثة بدأت من أوكرانيا، لقد حقَّقت روسيا نصراً غريباً أثناء هجومها على أوكرانيا عامَيْ 2014-2015، وفرضت اتفاقات لوقف إطلاق النار غير مناسِبة لكييف. وتطوَّر الجيش الأوكراني كثيراً منذئذ، لكن نظيره الروسي تطوَّر أيضاً، ويظل هامش التفوُّق الكمِّي والنوعي الروسي واسعاً.
بيد أن نجاح روسيا على أرض المعركة لم يُتَرجَم إلى نجاح دبلوماسي منذ ذلك الحين، حيث أثبت “بروتوكول مينسك” الذي تمخَّض عن الحرب، أنه اتفاق خاسر لكلا الطرفين.
من جهتها، لم تستعِد أوكرانيا سيادتها على أراضيها، وفشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في إجبار روسيا على الانسحاب تحت ضغط العقوبات، رُغم نجاحهم في تجنُّب مفاقمة الصراع بينهم وبين قوة نووية كبرى.
أما روسيا، فتضاءل نفوذها باطراد منذ عام 2015 –بعيداً عن الأراضي التي استحوذت عليها أو غزتها، إذ وقَّعت أوكرانيا اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 2014، ما وضعها داخل النسق القانوني الأوروبي، وهي النتيجة ذاتها التي سعت روسيا إلى الحيلولة دون وقوعها.
وقد مضت كييف في سعيها الحثيث من أجل عضوية الناتو، ورغم انعدام فرصها الحالية في دخول التحالف، فإن تعاونها معه ما أنفك يتزايد.
وبينما تبدو واشنطن وقد أنهكتها الحروب، تتساءل روسيا ما إن كان الدعم السياسي المُعلَن من واشنطن لأوكرانيا ستُصاحبه عزيمة حقيقية أم لا. وإذا ما تراءى لبوتين أن دعم المسؤولين الأميركيين لوحدة الأراضي الأوكرانية محض كلمات –وما من دلائل في الحقيقة على أنه ليس محض كلمات– فإنه سيمضي دون رادع في تعديل ميزان القوى الإقليمي باستخدام القوة. هذا وسيكون من السفاهة بمكان أن يحاول بوتين غزو أوكرانيا كاملة، وهي بلد ضخم يقطنه أكثر من 40 مليون إنسان، لطالما حاولت روسيا مراجعة تسويات ما بعد الحرب الباردة. وقد كان هدف موسكو طيلة هذا الوقت هو استعادة منظومة إقليمية يملك فيها كلٌّ من روسيا والغرب القول الفصل بدرجة متساوية حيال الأمن في أوروبا.
ومن غير المُرجَّح أن يعتقد بوتين بإمكانية تحقيق تسوية كتلك عبر الإقناع أو الدبلوماسية التقليدية، أما الفعل العسكري الروسي، فيُمكِنه أن يُخيف الدول الأوروبية الكبرى بما يكفي لكي تقبل إتفاقاً جديداً مع موسكو، لا سيما أن بعض تلك الدول ترى نفسها وقد تبوَّأت مقعداً من الدرجة الثانية.
ورغم أن “فيكتوريا نولاند”، نائبة وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية، وصفت التزام الولايات المتحدة بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها بأنه التزام “حديدي”، فإن الولايات المتحدة لا تمنح أوكرانيا أيَّ التزامات أمنية رسمية ناهيك بأن تلك التصريحات تُشبه بشكل مخيف الدعم السياسي المعلَن لجورجيا قبيل حرب الأخيرة مع روسيا عام 2008 (التي انتزعت فيها روسيا محافظتين من جورجيا). ولا يقتصر الأمر على أن روسيا لن تردعها تلك التصريحات الدبلوماسية الرنَّانة التي تفتقد إلى المصداقية، بل ستحاول تقويض سُمعة الولايات المتحدة (أمام حلفائها) حين تظهر واشنطن بوصفها قوة مُجهَدة.
ففي كل الأحوال، ليست روسيا في حالة تراجع جيوسياسي، ولا تنوي أوكرانيا بدورها أن تتراجع عن موقفها، واستمرار المعركة من أجل النفوذ في أوكرانيا سيظل جرحاً لا يُمكن تضميده، وسيزداد سوءاً بالقطع قبل أن يندمل. ولا ينفي ذلك أهمية البحث عن حل دبلوماسي يُقلِّص خطر خروج الصراع عن السيطرة.
الربيع العربي شرعته أميركا وأوروبا وغيرت عناويين الانظمة. وها هي روسيا تشرع الربيع الأوروبي لتغيير عناويين الأنظمة من جديد.
يُعَدُّ الصراع الدائر المصدر الأوحد والأبرز لإنعدام الاستقرار بين القوتين الروسية والأميركية، ويبقى البحث عن توازن إستراتيجي بين القُطبين أمر عصيب بينما يدور صراع في الوقت نفسه. بيد أن التنافس بين القوتين النوويَّتيْن الكُبريَّيْن قد أخذ يحتدم، ما يجعل البحث عن التوازن الإستراتيجي ضرورة لا رفاهة أو خيالاً.