أوكرانيا تذكّر بأمجاد النفط: واشنطن أوّلاً..

 

عبادة اللدن -اساس ميديا

عام 2019، أطلقت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تسمية “غاز الحريّة” على الغاز المسال الذي بدأت بلاده بإنتاجه، كنايةً عن قدرة مورد الطاقة هذا على تحرير أوروبا من الاعتماد على شرايين الغاز الروسي. لم يأتِ غاز أميركا بالقدر الكافي، ولم تتحرّر أوروبا، ولا بدّ لهما الآن من تحمّل الأثمان.

خرج “غاز الحريّة” من قاموس الدبلوماسية الأميركية في عهد الرئيس الجديد جو بايدن، مع أنّه أكثر تحسّساً من النفوذ الروسي في أوروبا بما لا يُقاس. واقع الأمر أنّ توجّهاته في ملفّ الطاقة تفسّر الكثير من الخطوط العامّة لسياسته الخارجية، والكثير من مآزقها وتناقضاتها.

في أيديولوجيا بايدن وفريقه الديمقراطي نفَسٌ يرى في النفط عالماً قديماً تجاوزه التاريخ أو يكاد، ويبني على ذلك عصب سياساته الخارجية اتّجاه الدول المنتجة للنفط، إلى أن أتت الأزمة الأوكرانية لتذكّره بالحقائق على الأرض، ولتكشف عمق المعضلة التي تواجه التوجّه الاستراتيجي لإدارته في ملفّ الطاقة. فلا هو قادر على توفير البديل عن الغاز الروسي للأوروبيّين، والألمان على وجه الخصوص، ولا هو قادرٌ على إدارة الظهر للدول النفطية. معضلة عبّرت عنها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة ومستشارة الأمن القومي السابقة في عهد جورج بوش الابن، كونداليزا رايس، بالقول إنّ “التحوّل إلى الطاقات المتجدّدة يجب ألّا يدفعنا إلى تسليم ورقة النفط إلى روسيا”.

قد لا يكون من المبالغة القول إنّ سياسات الطاقة شكّلت أحد أكثر العناصر تأثيراً في السياسات الخارجية للإدارات الأميركية، خصوصاً بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، إلى أن حاول الديمقراطيون كتابة تاريخ مختلف في عهديْ باراك أوباما وجو بايدن. نفط الشرق الأوسط أعطى ثقلاً استراتيجيّاً كبيراً للمنطقة في السياسة الدولية، ولا سيّما بعد حرب أكتوبر 1973.

اكتشافات خارج “المنطقة”

في مطلع الثمانينيّات ظهرت الاكتشافات الكبرى في بحر الشمال ودول أخرى، فتوافرت مصادر بديلة للطاقة الهيدروكربونية، وانخفضت دول منظّمة “أوبك” في سوق النفط العالمية إلى الثلث أو ما دون، وهوت الأسعار بحدّة، وظلّت على ضعفها لأكثر من عقدين من الزمن. إلى أن أتت طفرة أخرى للأسعار بعد غزو العراق في 2003، نتيجةً لضعف الاستثمارات والاستكشاف في العقد السابق، وسادت حينها نظريّة “ذروة المعروض”، بما تعنيه من استمرار نموّ الاستهلاك العالمي في مقابل وصول الاحتياطات إلى ذروتها.

 

ثمّ كان الحدث الأهمّ في عقد الألفيّة بتطوير تكنولوجيا “التكسير الهيدروليكي” التي أدّت إلى زيادة كبيرة في إنتاج ما يُعرف بالنفط والغاز الصخريّيْن، لتعود الولايات المتحدة إلى صدارة الإنتاج العالمي، بعد سنوات من التراجع ونضوب الحقول.

نتيجة لتلك الطفرة، انهارت أسعار النفط عام 2014 من مستويات ما فوق مئة دولار للبرميل إلى أدنى مستوى قرب ثلاثين دولاراً. وكان لذلك الحدث تأثير عميق في السياسة الخارجية الأميركية في عهد باراك أوباما ووزيري الخارجية في ولايته، هيلاري كلينتون وجون كيري. تحوّل الاهتمام إلى أولويّات أخرى. باتت الصين تمثّل التحدّي الأكبر على صعيد الميزان التجاري والاستثماري، وعلى صعيد انقلاب الميزان التكنولوجي، من خلال ما يزعم الأميركيون من أنّ ضغطاً يُمارَس على الشركات الأميركية لتنقل التكنولوجيا “قسراً” إلى الصين، فضلاً عن “سرقة” براءات اختراع. وروسيا تمثّل تهديداً خطيراً للأمن السيبراني وتهديداً جيوسياسياً موروثاً عن الاتحاد السوفياتي في أوروبا.

بدا للأميركيين منذ منتصف العقد الماضي أنّ أمن الطاقة لديهم تحرّر، فلم تعد سياساتها صانعاً يوميّاً للدبلوماسية. غير أنّ ما يصنع الاختلاف بين الإدارتين الجمهورية والديمقراطية في البيت الأبيض موقفٌ أكثر عمقاً من الأجندة البيئية والصناعة الهيدروكربونية عموماً. في عهد أوباما قادت الولايات المتحدة الجهود العالمية للتوصّل إلى اتفاقية باريس للمناخ، وهي أهمّ اتفاقية في شأن الانبعاثات الضارّة في تاريخ البشرية، ومن شأن الالتزام بتوجّهاتها أن يقلب سياسات الطاقة رأساً على عقب.

“نورد ستريم 2”

لكنّ ترامب أتى بأجندة مغايرة تماماً تتّسق مع الإرث الجمهوري التاريخي في العناية بصناعة النفط والغاز. أنكر وجود التغيّر المناخي وأخرج بلاده من اتفاقية باريس للمناخ، وفتح الباب على مصراعيه لتراخيص التنقيب النفطي في الأراضي الفدرالية، وفتح المجال واسعاً أمام توسيع منشآت تصدير الغاز المسال في تكساس.

حاولت إدارة ترامب كثيراً إقناع المستشارة الأميركية السابقة أنجيلا ميركل بالتخلّي عن مشروع خط الأنابيب “نورد ستريم 2” الذي يمتدّ من روسيا إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، من دون المرور بأوكرانيا أو بولندا. لكنّ فارق التكلفة أكبر من أن يضحّي به الألمان، ناهيك عن الشكّ في مدى كفاية الغاز الأميركي للحاجات الأوروبية.

ثمّ أتى بايدن بخطٍّ مناوئ عموماً للصناعة الهيدروكربونية (النفط والغاز والفحم)، وراهن على ضخّ مئات مليارات الدولارات في صناعات الطاقات المتجدّدة من الشمس والرياح، ودعم صناعة السيارات الأميركية، بهدف الوصول إلى الحياد الكربوني. وفور انتخابه اختار وزير خارجية أوباما، جون كيري، ليكون مبعوثه الخاص للمناخ، فأخذ يجول العالم برسالة خطُّها الأساس خفض الاستثمارات في النفط والغاز مقابل زيادتها في الطاقة المتجدّدة.

قادت تلك السياسة بايدن إلى الالتزام بوقف منح التراخيص الجديدة للتنقيب عن النفط في الأراضي الفدرالية، وإلغاء مشروع خط أنابيب “كي ستون إكس إل” الاستراتيجي الذي كان سينقل النفط من مقاطعة ألبرتا الكندية إلى مصافي تكساس ولويزيانا.

يرى كثيرون في تلك الأجندة المناوئة للنفط تفسيراً للانكفاء الأميركي في ملفّات الشرق الأوسط، مرّة عبر سحب القوات وبطّاريّات الصواريخ، وأخرى عبر الانسحاب من أفغانستان والعراق، ومرّة عبر التفاوض للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بشروط متراخية. بين تلك الانعطافات خيط جامع هو التقليل من مركزيّة الطاقة في صياغة التوجّهات الاستراتيجيّة الخارجية.

ولادة أزمة أوكرانيا

على تلك الخلفيّة نشبت الأزمة الأوكرانية. تردّد الغرب كثيراً قبل أن يتّخذ قرار إعلان الحرب الاقتصادية على روسيا. ففي الحسابات إمدادات الغاز الروسية التي توفّر نحو 40% من احتياجات أوروبا، ونحو خمسة ملايين برميل من النفط تصدّرها روسيا كلّ يوم. وإذا ما حُجبت تلك الإمدادات عن الأسواق، جزئيّاً أو كلّيّاً، فلا شكّ أنّ العالم سيواجه ارتفاعاً غير مسبوق لتكاليف المعيشة بكلّ أوجهها، من رغيف الخبر إلى النقل إلى التدفئة وغير ذلك، وثمّة مخاطر حقيقية من أن يغرق الاقتصاد العالمي في الركود التضخّمي، وربّما في كساد كبير.

أيقنت أوروبا أخيراً أنّ الحرب الاقتصادية شرّ لا بدّ منه. وخرج ممثّل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل ليقرّ بأنّ المواجهة لا بدّ أن تشمل قطاع الطاقة، وأنّ لذلك ثمناً قاسياً ستتحمّله الاقتصادات كما سيتحمّله رجل الشارع.

أيّاً يكن ما سينجلي عنه غبار الحرب في أوكرانيا، ثمّة حقيقة تشكّلت في عالم ما بعد الأزمة، وهي أنّ صناعة النفط والغاز استعادت حضورها الاستراتيجي، ولا بدّ لذلك أن ينعكس بشكل ما على السياسات الأميركية في الشرق الأوسط.

Exit mobile version