رضوان السيد – أساس ميديا-
عندما تدخّلت روسيا في سورية عام 2015، فقد كان ذلك بالتنسيق مع إيران، و”تطنيش”، كما يُقال، من جانب الولايات المتحدة وأوروبا. الولايات المتحدة أيام الرئيس الأسبق باراك أوباما كانت عندها عدّة اعتبارات، أوّلها إنفاذ الاتفاق النووي مع إيران وعدم الميل إلى تدخّلٍ جديدٍ بعد الفشل في العراق، والانصراف إلى مصارعة داعش والقاعدة بعدما عاد ملفّ الإرهاب للتوهّج باستيلاء داعش على أجزاء واسعة من العراق وسورية وبتنفيذ ضربات في العمق الأوروبي.
في دراسةٍ لميشال كيلو المفكّر والسياسي السوري بعنوان: “الثورة السورية وبيئتها الدولية”، أرسلتها إليّ امرأته بعد وفاته لكي أقرأها وأكتب لها تقديماً بوصيّةٍ منه، يقول كيلو إنّ الأصل في ما أصاب سورية وثورتها من خرابٍ وتخريب هي سياسات “الفوضى الخلّاقة” التي تحدّثت عنها كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الرئيس جورج بوش الابن. وهو يرى أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أراد الانتقام من الغرب لِما نزل بحلفاء روسيا في العراق وليبيا، إضافةً إلى الحرص على الوصول للمياه الدافئة، واستنقاذ الحليف الوحيد الباقي لروسيا بالمشرق العربي. وأيّاً تكن حقائق المبرّرات للتدخّل الروسي الصاعق، فإنّ الغربيّين الذين انصرفوا آنذاك إلى مكافحة الإرهاب، اعتبروا أنّ روسيا تتورّط في المستنقع السوري كما تورّطت من قبل في المستنقع الأفغاني. والذي حدث بالفعل أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها تورّطوا بعد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وخسروا في مواجهة طالبان، كما خسر الروس من قبل في مواجهة “المجاهدين”. ثمّ إنّ بوتين ما أغرقه المستنقع السوري، على الرغم من أنّه اضطرّ إلى تقديم تنازلات لكلٍّ من إيران وتركيا وإسرائيل.
إلى هنا، ولم نقل بعد كلمةً عن الغزو الروسي لأوكرانيا. ويكون علينا أن نتذكّر، حيث يُقال الآن إنّها أوّل حربٍ في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، أنّ بوتين تدخّل في جورجيا وفصل أبخازيا عنها، واستولى من أوكرانيا على شبه جزيرة القرم، وشقّ عنها “جمهوريتين” في شرقها. وما اعتُبر ذلك كلّه حرباً عالمية، لأنّ الغرب ما أراد اعتبارها كذلك. إنّما الواضح أنّ الغرب إيّاه، وبخاصّةٍ الولايات المتحدة ثمّ بريطانيا وفرنسا، يريد الآن، بخلاف السابق، التهويل من شأن فعلة بوتين هذه المرّة. الأشدّ تردّداً في كلّ هذا المشهد ألمانيا الاتحادية، الأقرب جغرافيّاً إلى كلّ من روسيا وأوكرانيا. والبعض يُعيدُ ذلك إلى حيويّة الإمدادات الروسية الغازية والبترولية، والمصالح الكبرى للشركات الألمانية في روسيا. لكنّ ألمانيا (الهتلريّة) التي ورّطت أوروبا والعالم في حربٍ عالمية، من أجل “المجال الحيويّ” تتفهّم سرّاً هموم روسيا الاستراتيجية بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي. وهو الاستنتاج الذي توصّل إليه قائد القوات البحرية الألمانية عندما قال في مؤتمرٍ بالهند: “شبه جزيرة القرم ستبقى روسيّةً للأبد” (!). وقد انذعر المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز لصيرورة التصريح فضيحةً، فأقال الجنرال، المندفع في الكلام، من منصبه.
ضرورة الحماية الأميركية
في سورية أراد بوتين استعادة إحدى مناطق النفوذ المهمّة شأن الدول الكبرى. أمّا في جورجيا وأوكرانيا فهو مهتمّ بترميم أمن روسيا الاتحادية الاستراتيجيّ، الذي تهدَّد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في محيطه القريب بل وفي ساحته الداخلية. لقد حسب الأوروبيون أنّ الوضع العالمي تغيّر تغيُّراً جذريّاً، وأنّهم يستطيعون العيش دونما حاجةٍ إلى الحماية الأميركية، ودونما خوفٍ من روسيا الجديدة التي صارت شريكاً اقتصادياً وتجارياً شديد الأهمية. والمشكلة أنّ الرئيس الروسي، وليس بسبب عقليّة الحرب الباردة كما يُقال، قد اعتقد بعد تجربتيْه الحربيّتيْن في جورجيا والقرم، أنّه يستطيع تحقيق الأمرين بالقوّة: الأمن الاستراتيجي لروسيا والمصالح الاقتصادية والتجارية لشدّة حاجة الأوروبيين إليها، فغزا أوكرانيا لاستلحاقها كما هو مستلحقٌ لروسيا البيضاء.
الأميركيون بعيدون، والظرف مناسب لإثبات حاجة أوروبا الشديدة إليهم، فالحرب الباردة انتهت، لكنّ روسيا الاتحادية لا تنتهي وستظلّ جارةً مخوفةً ومخيفة. والأوروبيون لن يستطيعوا، مع ضعفهم المشهود، التسليم باستعمار أوكرانيا، لأنّها مهمّةٌ بحدّ ذاتها، ولأنّ دول البلطيق الصغيرة وبولندا ورومانيا وبلغاريا وتشيكيا تتعرّض للتهديد أيضاً، وإذا سقط استقلال أوكرانيا بالقوّة فإنّ بوتين لا يحتاج إلى حرب أُخرى لإخضاع جمهوريّات البلطيق تباعاً أو مرّةً واحدة.
ماذا سيفعل الأوروبيون إذن؟
سيساعدون أوكرانيا بكلّ سبيلٍ وليس دفاعاً عنها، بل هو دفاعٌ عن أنفسهم. وحتى السويد مهتمّة الآن بدخول الأطلسي! هم يتحدّثون الآن حتى عن حرب العصابات في أوكرانيا. ولن يستطيع الروس الانسحاب سريعاً حتى لو كان انتصارهم كاسحاً. فها هم ما يزالون في سورية بعد انقضاء سبع سنوات وعشرات الاتفاقيّات للكسب أو تعويض الخسائر مع بشّار الأسد. أوكرانيا من الضخامة بحيث تستعصي على الهضم وإن انكسرت عسكرياً. وهكذا ليس للأوروبيين خيار غير مقاومة الغزو الروسي لها ولو بالوساطة. إذ لها حدود مع خمس دول أوروبية ستظلّ حدودها مفتوحةً معها، وكما يصل اللاجئون إليها، فإنّ المساعدات ستأتي منها، وقد ينسحب إليها المقاتلون ثمّ يعودون للهجوم. ولا تستطيع روسيا التدخّل في كلّ الدول المحيطة وإلّا صارت الحرب شاملة.
لكنْ ماذا لو استسلم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أو القيادة العسكرية؟!
لا يبدو أنّ ذلك واردٌ حتى الآن، إنّما لو صار وارداً فإنّ الهدوء سيكون مؤقّتاً. بولندا “اختفت” ثلاث مرّات فيما بين ألمانيا وروسيا، لكنْ ها هي الدولة البولندية القومية قائمة لقوّة قوميّتها، وكانت سبباً مهمّاً في تفكّك الاتحاد السوفياتي. حتى الآن ما كانت هناك مشاعر قومية أوكرانية قوية، لكنّها الآن في ذروة التكوّن. ونستطيع التوقّع أنّ القوى اليمينية الصاعدة في أوروبا ستزداد صعوداً بداعي العداء لروسيا. وإلى ذلك سيزيد الأوروبيون جميعاً من عتادهم العسكري.
لكن ماذا عن النظام الدولي والعلاقات الدولية؟
المؤرّخ البريطاني الكبير الراحل إريك هوبسباوم كتب أنّ مجلس الأمن يفشل في حلّ ثلاثة أرباع المشكلات الدولية، بسبب صراعات المصالح بين أعضائه الخمسة الكبار. لكن ليس بسبب ذلك فقط، بل وعندما تجرؤ دولةٌ “مارقةٌ” على تحدّي الجميع مثل كوريا الشمالية أو إيران. في هذه الحالة إمّا أن تُعزَل وتُحاصَر في المدى الطويل حتى تسقط مثل زيمبابوي، أو ترى دول كبرى مصلحةً لها في حمايتها أو التحالف معها (انتهى الاقتباس من هوبسباوم في كتابه: “عصر الثورة”).
النموذج الروسي يمكن أن تلجأ إليه الصين مع تايوان. وقد ابتلعت الصين هونغ كونغ بتمهّلٍ وتلبُّثٍ ودونما كثرة ضجيج مثل ما تفعله روسيا دائماً ومنذ أيام القيصرية وليس منذ أيام الاتحاد السوفياتي فقط. روسيا تريد تحطيماً بالقوة علناً. ويفعل الأميركيون الشيء نفسه وإنّما بكثيرٍ من الإعلانات والتبريرات مثلما حدث في أفغانستان والعراق. ومع هذا وذاك وذلك ماذا يبقى من النظام الدولي والعلاقات الدولية؟