تركيا تغلق المضائق: مجازفة معلَنة بالمصالح الروسية
الأخبار- محمد نور الدين
هذه الاتفاقية، التي وُقّعت في 20 تموز 1936، تنظّم حركة الملاحة من البحر الأسود وإليه عبر مضيقَي البوسفور والدردنيل. وتقول المادة العشرون منها إنه في حالة وجود تركيا في حالة حرب مع أيّ دولة أخرى، يمكنها أن تغلق المضائق وفقاً لما تريد. لكن أنقرة ليست الآن في حالة حرب مع أيّ دولة. ولذا، اتّجهت الأنظار إلى المادة 19 التي تنصّ على أنه في حالة دخول أيّ دولة من دول البحر الأسود حرباً مع دولة أخرى، فبإمكان تركيا إغلاق المضائق أمام حركة السفن الحربية التابعة للدول المتحاربة في الاتجاهَين. إلا أنه يمكن للسفن الموجودة في البحر المتوسط، والمسجَّلة مثلاً في قاعدة في البحر الأسود، أن تطلب من أنقرة السماح لها بعبور المضائق للعودة إلى قاعدتها الأم، والعكس بالعكس.
سبقت أنقرة أيّ خطوة في هذا الاتجاه بالقول إنّ إغلاق المضائق لا يعني خطوة عدائية تجاه روسيا، بل هو تطبيق حرفي لـ»مونترو». كما أن تركيا تواجه تحديات أخرى تتعلّق بالاتفاقية ذاتها، حيث تَبرز مطالبات أو تلميحات من قِبل دول لا تنتمي إلى البحر الأسود، مثل الولايات المتحدة، بوجوب تعديل الاتفاقية، بحيث يُسمح لسفن هذه الدول بالعبور بحرية إلى البحر الأسود، وبالعدد والحجم الذي تريد، علماً بأن «مونترو» تمنع دخول أكثر من سفينتَين تابعتَين لدولة واحدة يزيد وزنهما على 45 ألف طن، وتفرض ألّا تزيد مدة بقائهما في البحر على 22 يوماً. وقد واجهت الولايات المتحدة صعوبات بسبب ذلك، أثناء المناورات التي قادتها في البحر الأسود لدول «حلف شمال الأطلسي» ومنها تركيا، ولمّحت ضمناً إلى الرغبة في تعديل الاتفاقية، الأمر الذي واجه معارضة شديدة داخل تركيا، لأن أيّ تعديل مهما كان صغيراً، يفتح باباً لن ينغلق على مطالبات بتعديلات واسعة من قِبل دول كثيرة.
الآن، تجد الحكومة التركية نفسها أمام تحدٍّ أساسي، يتمحور حول ما إذا كانت روسيا ستعتبر إغلاق المضائق خطوة عدائية ضدها. ويأتي هذا التحدّي بعدما تخطّت أنقرة تحدٍّ آخر، يتمثّل في واقع أنه لو لم تُقْدم على خطوة كهذه، كان ذلك سيعني أنها تنتهك أحكام الاتفاقية بنفسها، الأمر الذي سيفتح باب المطالبة بتعديلها، علماً بأن الأتراك يرون أن «مونترو» ركيزة أساسية لأمنهم القومي، ومكمّلة لـ»معاهدة لوزان» عام 1923، والتي رسمت أسس الكيان التركي. وتشكّك المعارضة التركية في نيات الحكومة، وتتهم الرئيس رجب طيب إردوغان بالسعي إلى هدم كلّ الإنجازات التي حقّقها أتاتورك، وعلى رأسها «لوزان» و»مونترو». وتدرك الحكومة التركية عواقب مثل هذه الخطوة، التي ستؤدّي إلى توتير علاقاتها مع روسيا، فيما تعتقد المعارضة أن ضرب تلك العلاقات يصبّ في مصلحتها، باعتبارها ركيزة من ركائز استمرار سلطة إردوغان. ولعلّ من تجلّيات ذلك، تقديم نائب إسطنبول عن «حزب الشعب الجمهوري المعارض»، محمود تانال، دعوى لدى المدعي العام للجمهورية في أنقرة، يتّهم فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزراء الدفاع والخارجية ورئيس الأركان في روسيا، بـ»ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وانتهاك القانون الدولي» في أوكرانيا.
تركيا مهدَّدة بفقدان العديد من الامتيازات والمكاسب الناتجة من علاقاتها المتشابكة
كما كان لافتاً مانشيت صحيفة «قرار» المعارِضة والمؤيّدة لأحمد داود أوغلو وعلي باباجان، وفيه: «عُد إلى بلادك يا فلاديمير»، فيما انطلقت حملة عامة ضدّ روسيا في وسائل الإعلام المؤيّدة للحكومة وتلك التابعة للمعارضة. لكن محمد علي غولر في صحيفة «جمهورييات»، يدعو الرأي العام إلى التذكّر بأن الأزمة الأوكرانية هي مجرّد نتيجة لسبب، هو رغبة «حلف شمال الأطلسي» في التوسّع شرقاً لخنق روسيا، بعدما أرادت الولايات المتحدة أن تنقل ثقلها إلى الشرق لخنق الصين. ويرى غولر أن روسيا «تعمل لمنع حرب عالمية من خلال غزو أوكرانيا»، بينما الولايات المتحدة تمثّل «ماكينة الحرب التي يجب القول لها توقّفي». ويقول غولر: «إن كلّ سنّ ينكسر من أسنان حلف شمال الأطلسي هو ضمانة لمستقبل وسلام الإنسانية جمعاء».
على أيّ حال، تعتقد تركيا أن إغلاق المضائق ربّما يمثّل فرصة لتوجيه رسالة «حسن نيّة» إلى القوى الغربية. كذلك، وعلى رغم المخاطر التي تكتنفها الحرب الأوكرانية على المصالح التركية، إلّا أن البعض يرى فيها «فرصة» لإعادة الاعتبار إلى أنقرة في أكثر من مجال. وعلى رأس هذه الفرص، يأتي رفض أوروبا تشغيل خطّ «نورد ستريم 2» الروسي، والذي قد يكون مناسبة لتركيا لتذكير أوروبا بأنها الممرّ الإجباري والأكثر جدوى لنقل غاز شرق المتوسط من إسرائيل ومصر إلى ميناء جيهان التركي، ومنه عبر الأنابيب المارّة في الأناضول، وصولاً إلى أدرنة فاليونان وأوروبا، ولا سيما بعدما سقط مشروع خطّ غاز شرق المتوسط من إسرائيل إلى قبرص الجنوبية، فاليونان وإيطاليا إلى أوروبا، والذي تبلغ كلفته حوالي 9 مليارات دولار، وإعلان الولايات المتحدة أخيراً أنها لن تساهم في هذا المشروع.
مع ذلك، تتخوف تركيا كثيراً من تداعيات الحرب الأوكرانية على الاقتصاد التركي. فعلى سبيل المثال، يبلغ حجم التجارة بين تركيا وروسيا حوالي 35 مليار دولار، منها 28 ملياراً واردات الأولى، والتي يذهب معظمها إلى شراء الطاقة، حيث تستورد أنقرة من موسكو 34 في المئة تقريباً من حاجتها إلى الغاز الطبيعي، وحوالي العشرة في المئة من حاجتها إلى النفط. أيضاً، تستورد تركيا من روسيا حوالي 65 في المئة من حاجتها إلى القمح، فيما يأتي السيّاح الروس إلى تركيا في المرتبة الأولى، وعددهم حوالي 5 ملايين سائح بمعدّل خمسة مليارات دولار. يُضاف إلى ما تَقدّم أن ثمّة استثمارات تركية في روسيا بقيمة 21 مليار دولار عبر 150 مشروعاً. كما أن الروس هم الذين يبنون المفاعل النووي في مرسين، ويزوّدون تركيا بصواريخ «أس 400» (كعب أخيل التوتر التركي ــــ الأميركي)، في حين يعدّ خطّ نفط «الدفق التركي» من روسيا عبر البحر الأسود إلى شرق إسطنبول شبه منتهٍ. وتتعاون تركيا وروسيا في عدد كبير من القضايا الإقليمية، مثل القوقاز وسوريا وليبيا وغيرها.
في المقابل، لتركيا علاقات متطوّرة اقتصادياً وعسكرياً مع أوكرانيا، حيث يبلغ حجم التجارة بينهما حوالي 7 مليارات دولار، والسيّاح ثلاثة ملايين أوكراني، والاستثمارات التركية في أوكرانيا 5 مليارات دولار. وتستورد أنقرة، أيضاً، 15 في المئة من حاجتها إلى القمح من كييف، فيما تُعتبر الأخيرة سوقاً مهمّة لطائرات «بيرقدار» التركية المسيّرة، والتي شكّلت أحد أهم أسباب انزعاج روسيا من تركيا، ورفضها التجاوب مع محاولة إردوغان التوسّط في الأزمة. بالنتيجة، تركيا مهدَّدة بفقدان العديد من الامتيازات والمكاسب الناتجة من هذه العلاقات المتشابكة، في حال تصاعد وتيرة الحرب أو خسارة أحد البلدين إذا ما انحازت إلى أحدهما.
على صعيد آخر، يرى محلّلون أن انفجار الحرب الأوكرانية يؤكد للأوروبيين أن مركز التهديد العالمي لا يزال على الأرض الأوروبية وليس قرب الصين، وهذا ما يعيد الاعتبار إلى الجغرافيا الأوروبية، والأهمية إلى دول أخرى مثل تركيا في الصراع ضد روسيا. كما أن الأزمة الأوكرانية سوف تشدّ من جديد العصب الأطلسي بشقَّيه الأميركي والأوروبي، بما فيه أنقرة، وقد تدفع بايدن نفسه إلى التخلّي عن محاولات التخلّص من إردوغان.