اجتياح أوكرانيا أكبر خطأ يرتكبه بوتين وهو ما سيطبع إرثه إذا سارت العمليات العسكرية على ما لا يُشتهى أو لو تأثر مستوى المعيشة سلباً فإن الرئيس الروسي يخاطر بموجة إحباط شعبية أو حتى وقوع انقلاب ضده
ماري ديجيفسكي
كتبت في صحيفة “اندبندنت” قبل أسبوع من اليوم، واستنتجت في خلاصة تحليلي حول فشل الغرب حتى في محاولة فهم روسيا اليوم ورئيسها فلاديمير بوتين على هذا النحو: “إذا اجتاحت روسيا الأراضي الأوكرانية، فإن تلك العملية لن تكون نزهة جميلة حلم بالقيام بها الرئيس بوتين لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق، كما أنها لن تكون عملية اتخذ القرار بتنفيذها في لحظة غضب جراء شعوره بسوء المعاملة لتلقين الأوكران درساً. خطوة الرئيس بوتين لا تعكس هاتين الحالتين- رغم كثير من النظريات الخطأ التي تفيد بالعكس- فهو ليس [زعيماً] يحن للزمن الإمبريالي، وهو ليس مقامراً. لكنه يجتاح أوكرانيا لأنه كرئيس لروسيا يعتقد أن أمن بلاده مهدد- ومهدد ولنبعد هنا أي مجال للشك، وأن مصدر هذا التهديد هو نحن [في الدول الغربية]”.
الاجتياح قد وقع الآن. ووفق التقارير الأولية، نجحت روسيا في شن هجوم على عدة جبهات استهدف خصوصاً مواقع عسكرية في الساعات الأولى لفجر الخميس. وهذا يشير إلى أن القيادة الروسية قد لجأت إلى ما يعرف بخيار الحد الأقصى، وأن الهدف منه يذهب إلى أبعد بكثير من تعزيز السيطرة الروسية على مناطق الشرق في إقليم دونباس الأوكراني بالتزامن مع ترك بقية أنحاء البلاد وشأنها.
هدف موسكو يبدو أنه ليس أقل من تحييد أوكرانيا عسكرياً وضمان، من وجهة النظر الروسية، أن البلد لا ولن يشكل في المستقبل المنظور- أي خطر أمني على روسيا.
حالياً هناك كثير من الغموض، بما في ذلك إن كانت خطة بوتين تقضي بإطاحة الحكومة المنتخبة بطريقة ديمقراطية [حالياً في كييف]، أو إذا ما كان بوتين ينوي الإبقاء على قوات روسية لتحتل أجزاء [إضافية] من أراضي أوكرانيا، أو أن تلك القوات ستحتل كامل التراب الأوكراني. ولا يبدو واضحاً أيضاً في هذه المرحلة ما إذا كان الأوكرانيون سيتمكنون من القتال أو إذا كانت لديهم النية بذلك. حلف الأطلسي والولايات المتحدة وإلى جانبهما المملكة المتحدة كانوا قد قالوا بكل وضوح، خلال الأسابيع الماضية، إنهم لن يرسلوا جنوداً للقتال في أوكرانيا، وإن أي رد من تلك الدول سيكون مقتصراً على تدابير مثل فرض العقوبات.
وفي الإمكان القول، إن ذلك أعطى بشكل من الأشكال ضوءاً أخضر لموسكو. لكن البعض يعتقدون أن مقداراً من الغموض لا يزال يلف هذا الأمر.
ولكن ما يجب أن يكون واضحاً حالياً، هو أن شن القيادة الروسية هجوماً على أكثر من محور ضد دولة مستقلة- ودولة بحجم مساحة أوكرانيا وعدد سكانها الذي يتجاوز 44 مليون نسمة نجحوا مرتين خلال الأعوام العشرين الماضية في الانتفاض بنجاح ضد حكومتهم التي كانوا يعارضونها- فإن بوتين يدخل في مغامرة كبيرة [قد تهدد موقع] روسيا وموقع زعامته.
اليوم يمكن القول، إن الخطط الروسية قد تم وضعها بعناية من وجهة النظر العسكرية، وهي خطط تحمل في طياتها أهدافاً محدودة يمكن تحقيقها خلال فترة قصيرة من الزمن نسبياً ومن دون مواجهة أي مقاومة تذكر. هكذا كان الوضع يوم سيطرت روسيا وبنجاح على شبه جزيرة القرم عام 2014- مدعومة بالطبع وهنا يجب الاعتراف بذلك، من قبل كثير من أهالي [القرم] المحليون المؤيدون لروسيا. وبشكل مماثل ربما ستحظى العمليات التي تسعى لتقويض قدرات أوكرانيا العسكرية بنفس الحظوظ من النجاح، مما يمنح الرئيس بوتين نصراً إضافياً وقد يكون نصراً أعظم- والذي يمكنه البناء عليه ليخرج من المشهد السياسي بشكل يمجد [فيه التاريخ الروسي] انتصاراته المضيئة [التي حققها للأمة].
لكن، سيكون من الصعب أن تكون كل تلك الاحتمالات مضمونة. فأوكرانيا ليست شبه جزيرة القرم. وأكثر من ذلك، لا بد من الإشارة إلى ما قاله بوتين في بيانه الذي أعلن فيه عن بدء العمليات العسكرية، فهدف روسيا لا يقتصر فقط على مجرد جعل أوكرانيا دولة “منزوعة السلاح”، لكن تسعى روسيا بحسب ما أطلق عليه بوتين مساعيها لــ”اجتثاث النازية” denazification في أوكرانيا- مظهراً عبر ذلك سردية روسية تقول، إن أوكرانيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قد سمحت بنمو تيار جماعات اليمين القومي التي تعود أصولها إلى حقبة الثلاثينيات في أوروبا. نعم إن مثل تلك الجماعات موجودة في أوكرانيا ولديها بعض التأثير، ولكن هذه الجماعات تبقى هامشية.
تتمتع أوكرانيا بحكومة منتخبة ديمقراطياً، ورئيسها فولوديمير زيلينسكي Volodymyr Zelensky، هو من أصول يهودية. محاولات الدولة الروسية اليائسة لتعريف الحكومة الأوكرانية على أنها والدولة مرتبطتان بصعود النازية تجافي الحقيقة. وإذا كانت روسيا تنوي الانخراط في ما سماه الرئيس بوتين “اجتثاث النازية” denazification، فإن من شأن ذلك أن يؤدي إلى اعتقال عدد كبير من الأشخاص وربما يلاقون مصيراً أسوأ من الاعتقال- مما يعني أن العملية العسكرية ستصبح أكثر تعقيداً، ولا يمكن التنبؤ بنتائجها على المحتل الروسي.
السبب المركزي الذي حملني أنا وأقلية من الخبراء الغربيين، ولا مناص من القول، إنهم أقلية، [المهتمين بمتابعة الشأن الروسي] على اعتبار أن العمل العسكري العلني ضد أوكرانيا مستبعد، هو أن مثل هذا المشروع بدا لنا محفوفاً بالمخاطر، ويتعارض في كل شكل من الأشكال مع مصالح بوتين وروسيا على حد سواء. فالاعتقاد أن العملية العسكرية لوحدها ستؤدي وباختصار إلى إنهاء ميل أوكرانيا وطموحاتها إلى التطلع غرباً، وإعادة صوغ [هيكلة] الدولة بشكل يتناسب أكثر مع رغبات روسيا يشكل على أقل تقدير تهديداً كبيراً للجانب الروسي، ويحمل في طياته ربما حسابات كارثية في غير محلها.
وعلى الرغم من كل جهود الرئيس بوتين واستعراضاته المسرحية خلال ظهوره التلفزيوني مجتمعاً مع أعضاء مجلس الأمن الروسي، الإثنين الماضي، لتقديم عملية اتخاذ القرار الجماعي الذي مهد الطريق أمام انطلاق العمل العسكري، فإن المسؤولية الكاملة جراء ما سيلي من أحداث تقع على عاتق الرئيس الروسي والقائد الأعلى للبلاد وحده. وإذا سارت الأمور بشكل يظهر فيه خطأ الحسابات [الروسية]، فإن الخطأ سيكون خطأ بوتين نفسه، ومن دون أدنى شك- ومن منظور روسي بحت- سيكون ذلك أكبر الأخطاء التي ارتكبها الرئيس الروسي خلال عقدين ناجحين من ولايته على رأس السطة الروسية حتى الآن.
الصعوبات العسكرية- مثل أن تغرق القوات الروسية في وحل أوكرانيا، وأن يرتفع حجم الخسائر [الروسية] أو أن تتطور الحرب إلى حرب عصابات في المدن- سيطيح وبسرعة بكل بريق العملية العسكرية بأي نجاحات أولية قد تسجل. إن الشهية الروسية للحرب- أقله، شن الحرب ضد دولة جارة حيث لكثيرين روابط عائلية وصداقات- أمر ليس مؤكداً على الإطلاق- على الرغم من تصوير الحملة العسكرية كنضال عصرنا هذا للحيلولة من دون صعود النازية قد يساعد على إقناع أجزاء قليلة من الرأي العام الروسي. فيما أنه لو قررت روسيا الانسحاب وإعلان النصر- تاركة الدول الغربية للملمة الجراح ودفع فاتورة الأضرار وإعادة بناء البلد- فمن شأن ذلك أن يحد من حجم الضرر [الذي قد يلحق بالقيادة الروسية الحالية] إلى حد ما، ومن نتائج هذا السيناريو بالنسبة لروسيا سيكون وفي أحسن الظروف، دولة أوكرانية جارة مدمرة وفقيرة.
أوكرانيا ما بعد الاجتياح الروسي ستكون معادية بشكل عام لروسيا بشكل أكبر مما هي كانت عليه. إحدى مشكلات الرئيس بوتين مع أوكرانيا أنها اليوم تعمل على بناء حسها القومي، على الأقل في الجزء الذي يصور روسيا على أنها الدولة العدوة، راهناً وتاريخياً. هذا الشعور سيزداد بين الأوكرانيين وسيكون لديهم ما يبرر مشاعرهم تلك بعد هذا الاجتياح الروسي.
وإذا سارت موسكو في مشروعها لتنصيب حكومة “دمية” موالية للحكومة الروسية [في كييف]، فذلك قد يساعد طوال الفترة التي سيكتب لتلك الحكومة القدرة خلالها على الصمود، فيما هي تعاني في مساعيها التعامل مع شعب حاقد وغير متعاون إذا لم نقل إنه منتفض تماماً ضد النظام الجديد شأنه شأن أي نظام يعتبرونه محتلاً. في المحصلة، لقد “خسرت” روسيا اليوم أوكرانيا حتى بشكل أكبر مما كان عليه الحال [قبل الاجتياح]، وموسكو قامت عملياً في التنازل عنها على الأمد الطويل [ورمتها] في أحضان التكتل الغربي.
وفي النظر إلى الأمور بشكل أوسع، فعبر اجتياحها أوكرانيا أعادت روسيا التأكيد على إعادة إنعاش [رص صفوف] التحالف الغربي الذي كان في طور التفكك، إضافة إلى زيادة عدد الدول التي قد تنضوي ضمن حلف الأطلسي مثل فنلندا والسويد وهما واقعتان على حدود روسيا الشمالية. منذ اليوم ولسنوات مقبلة ستتحول روسيا إلى دولة منبوذة عالمياً، يتم استثناؤها من العلاقات الدبلوماسية والتجمعات الاقتصادية ويتم تجاهلها من قبل الدول الغربية التي كانت تسعى موسكو دوماً للفوز باحترامها.
الرئيس بوتين- شأنه شأن كثير من الروس- قد يعارض هذه السردية، فمن وجهة نظره قد تمت معاملة بلاده كدولة “خارجة عن سرب (الإجماع) الدولي” outsiders بغض النظر عن أي تنازل أو انفتاح تقدمه روسيا من جانبها، ولذلك لم يعتقد أن هناك ما يخسره في الأصل. وروسيا ستتحول إلى أطراف أخرى، وشركاء مفيدين أكثر، مثل الصين والهند أو دول أفريقية صاعدة أخرى. انعطافة من هذا النوع قد تترك موسكو أقل عزلة مما قد يكون عليه الحال بعد اجتياحها أوكرانيا، لكن ذلك لا يتطابق مع صورة روسيا عن نفسها التي ترى دوماً أنها دولة أوروبية [بامتياز].
بالنظر إلى ما سبق، فإن اجتياح أوكرانيا يفرض على بوتين واحدة من أصعب المنعطفات خطورة خلال حكمه الذي استمر حتى الآن عشرين عاماً. ويعود الفضل في بقائه على سدة السلطة طوال هذه الفترة إلى قدرته على استشعار المزاج الروسي وفهم مطلباتهم حتى قبل أن يشعروا في الحاجة إليها، ولكن أيضاً لقدرته على تأمين نوع من الاستقرار في حياة الناس ورفع مستوى المعيشة، ونجاحه أيضاً في إدراج روسيا على الخريطة الدولية [استعادة مكانتها].
من خلال اجتياحه أوكرانيا، من المؤكد أن بوتين نجح في تدعيم مكانته ومكانة روسيا على الخريطة العالمية. لكن لو اتجهت العمليات العسكرية نحو الفشل، أو لو بدأ مستوى المعيشة الروسي في التراجع، فسيكون مهدداً نتيجة الإحباط الشعبي أو عرضة لانقلاب في القصر. رغم الجهود لتقديم الاجتياح على أنه جاء نتيجة قرار جماعي للقيادة الروسية، ليس من الواضح بعد حجم الدعم الذي يحظى به هذا الاجتياح في أوساط طبقة النخبة الروسية، ناهيك عن الموقف الشعبي العام الذي لطالما كان مشككاً في أي مغامرة عسكرية.
لكن بالنسبة لبوتين نفسه، فإن حساباته قد تكون مختلفة. كرئيس لروسيا، فهو ربما يعتقد بصدق إضافة إلى بعض زملائه من أبناء جيله أن خيار دولة أوكرانيا الانضمام إلى حلف الأطلسي يعتبر تهديداً مباشراً ووجودياً بالنسبة لبلاده. وهو كان قد وصف عضوية أوكرانيا في حلف ناتو “خطاً أحمر” روسياً. وبسبب هذا فإنه قد يستنتج أنه من خلال اجتياح أوكرانيا فهو يحمي روسيا. ولذا ربما يكون بوتين مقتنعاً تماماً أنه قد قام بالخيار الحكيم، حتى ولو كلفه ذلك منصبه وسمعته كزعيم روسي ناجح. من هذا المنظور، فإن الحكم النهائي على ما يجري لن يصدر خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة لتحديد ما إذا كان اجتياح أوكرانيا خطأ أم لا، بل قد يترك هذا الحكم إلى الأجيال المقبلة.
© The Independent