الأخبار- وليد شرارة
«الهجوم خير وسيلة للدفاع». ينسب هذا القول، من دون تدقيق كاف، لنابوليون بونابرت، غير أن عدداً كبيراً من القادة والمفكرين العسكريين كرّسوه كأحد المبادئ الأساسية للاستراتيجية الدفاعية عندما تسنح ظروف الصراع بترجمته ميدانياً. تحاول السرديات الغربية عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، كتلك التي قدمتها ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة مثلاً، تصويرها على أنها عملية توسّعية روسية تهدف إلى ابتلاع هذا البلد، ضمن مسعى لإعادة بناء الاتحاد السوفياتي أو الإمبراطورية الروسية. وبطبيعة الحال، فإن تجاهل السياق التاريخي والجيوسياسي للحرب شرط ضروري لتعبئة دول العالم وشعوبه ضد «انتهاك فاضح لمبادئ القانون الدولي، وفي مقدمها مبدآ احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية». ولكن، هل تمنع مبادئ القانون الدولي حلف الناتو من استكمال عملية تطويقه لروسيا، التي بدأت منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، عبر حشد قواته العسكرية ومنظومات سلاحه المتطورة في جوارها، بما فيها البطاريات المضادة للصواريخ، والصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، القادرة على حمل رؤوس نووية، والموجّهة إليها؟ الجواب سيكون طبعاً سلبياً، فالدول ذات السيادة تستطيع أن تتحالف مع من تشاء وأن تنشر على أراضيها ما تريده من منظومات سلاح، حتى لو شكّل هذا الأمر تهديداً وجودياً لدولة مجاورة. وروسيا تواجه مثل هذا التهديد الوجودي من قبل حلف الناتو المصرّ على اعتماد استراتيجية الاحتواء نفسها التي اتبعها ضد الاتحاد السوفياتي، عبر التوسع شرقاً وصولاً إلى حدودها. لم يتساءل المتباكون على السيادة الأوكرانية عن الأسباب الموجبة التي برّرت الحفاظ على حلف الناتو، وتوسيعه، رغم اختفاء الخطر السوفياتي المزعوم على دول أوروبا الغربية. انتصر الغرب آنذاك وأصبح من «حقه»، بنظر هؤلاء، إعادة صياغة الهندسة الأمنية والاستراتيجية ليس في أوروبا وحدها، بل على صعيد الكوكب. لم ننسَ، نحن القابعين في هذا الجزء من العالم، مشروع «إعادة صياغة الشرق الأوسط» وما أفضى إليه من كوارث وويلات في ديارنا. اختار الرئيس الروسي التوقيت المناسب للهجوم المضادّ دفاعاً عن بلاده، وستكون لهذه الحرب مفاعيل جيوسياسية وجيواقتصادية على مستوى المعمورة بأسرها.
لم يلتفت المعلّقون إلى إقرار فلاديمير بوتين للمرة الأولى، في خطابه الذي أعلن فيه اعترافه باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الاثنين الماضي، بأنه طرح على نظيره الأميركي الأسبق بيل كلينتون خلال زيارته لروسيا عام 2000، فكرة انضمام روسيا لحلف الناتو، من دون أن يلقى من الأخير اهتماماً جدياً بعرض بهذه الأهمية. قدّم بوتين اقتراحه بعد أول عملية توسيع للناتو في 1999 وانضمام تشيكيا والمجر وبولندا إليه، والحرب على صربيا، بذريعة الدفاع عن أهل كوسوفو في العام نفسه، بعد تفكيك يوغوسلافيا، لتصفية آخر منطقة نفوذ روسي في أوروبا بنظر القوى الغربية. كانت القناعة السائدة لدى القطاع الأعظم من النخبة الروسية في تلك الفترة أن من الأفضل بالنسبة لموسكو أن تكون جزءاً من مجلس إدارة العالم بقيادة الولايات المتحدة، والناتو بمثابة وزارة دفاعه، ولو من موقع أدنى، على أن تكون خارجه. وفي 2001، تحدث بوتين أيضاً، في خطاب له أمام البرلمان الألماني، عن المصير «الأوروبي» لروسيا، من دون أن يجد الترحيب الذي توقّعه. تعاونت روسيا مع الولايات المتحدة في «الحرب على الإرهاب» ولم تعارض سياساتها في أية بقعة من العالم باستثناء موقفها المبدئي الرافض للحرب على العراق في 2003 إلى جانب فرنسا وألمانيا، والذي لم يحل دون شنّها. غير أن التحول الفعلي في تقديرها لنوايا واشنطن حيالها حصل في 13 كانون الأول 2001، عندما أعلنت إدارة بوش الابن خروجها من معاهدة منع بطاريات الصواريخ المضادة للصواريخ الموقعة بين واشنطن وموسكو في 1972. عنى هذا الخروج أن واشنطن تريد إعادة النظر بمبدأ الردع النووي المتبادل بين الدولتين وحرمان روسيا من القدرة على القيام بالردّ على هجوم نووي أو صاروخي تبادر هي إليه. وأتى الاتفاق بين الولايات المتحدة وكل من بولندا وتشيكيا على نشر مثل هذه البطاريات على أراضيهما في 2007 ليعزّز من مخاوف موسكو من النوايا المذكورة. تلى ذلك قمة الناتو في بوخارست في 2008 ومطالبة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بضم أوكرانيا وجورجيا إليه. عمدت القيادة الروسية بداية إلى استعراض قوتها ضد جورجيا في العام نفسه لإفهام دول الحلف بأن إدخالها إليه هو خط أحمر، واندرجت العملية العسكرية ضد أوكرانيا في 2014، وضم جزيرة القرم، في الإطار نفسه، أي منع دخول هذا البلد إلى الناتو بالقوة. شهدنا أيضاً في الفترة إياها عودة لسباق التسلح في مجال الأسلحة النووية التكتيكية والصواريخ الفرط صوتية إضافة إلى منظومات السلاح التقليدية كالطيران والمدفعية والمدرعات بين موسكو وواشنطن. وقد أشارت وثيقة استراتيجية الدفاع الوطني التي أصدرتها إدارة ترامب في 2018 إلى التقدم الكبير الذي أنجزته روسيا على مستوى قدراتها العسكرية، مما حدا بها لتصنيفها منافساً إستراتيجياً و«قوة تحريفية» تسعى لتغيير النظام الدولي الليبرالي، جنباً إلى جنب مع الصين. روسيا في خضمّ مواجهة استراتيجية كبرى ومتعددة الأبعاد مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وقرار النخبة السياسية الأوكرانية بالانضمام إليه، بالتالي المشاركة في استراتيجية حصار روسيا، حوّل بلدها إلى إحدى ساحات هذه المواجهة. كان من الممكن لهذه النخب أن تقبل بفكرة تحييد أوكرانيا، وفقاً لنموذج فنلندا خلال الحرب الباردة، غير أن ارتباطها العضوي بالولايات المتحدة وثقتها العمياء بقدرتها على توفير الحماية لها حفّزاها على تبني هذا الخيار الانتحاري.
لم يلتفت المعلّقون إلى إقرار فلاديمير بوتين للمرة الأولى، في خطابه الذي أعلن فيه اعترافه باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الاثنين الماضي، بأنه طرح على نظيره الأميركي الأسبق بيل كلينتون خلال زيارته لروسيا عام 2000، فكرة انضمام روسيا لحلف الناتو، من دون أن يلقى من الأخير اهتماماً جدياً بعرض بهذه الأهمية. قدّم بوتين اقتراحه بعد أول عملية توسيع للناتو في 1999 وانضمام تشيكيا والمجر وبولندا إليه، والحرب على صربيا، بذريعة الدفاع عن أهل كوسوفو في العام نفسه، بعد تفكيك يوغوسلافيا، لتصفية آخر منطقة نفوذ روسي في أوروبا بنظر القوى الغربية. كانت القناعة السائدة لدى القطاع الأعظم من النخبة الروسية في تلك الفترة أن من الأفضل بالنسبة لموسكو أن تكون جزءاً من مجلس إدارة العالم بقيادة الولايات المتحدة، والناتو بمثابة وزارة دفاعه، ولو من موقع أدنى، على أن تكون خارجه. وفي 2001، تحدث بوتين أيضاً، في خطاب له أمام البرلمان الألماني، عن المصير «الأوروبي» لروسيا، من دون أن يجد الترحيب الذي توقّعه. تعاونت روسيا مع الولايات المتحدة في «الحرب على الإرهاب» ولم تعارض سياساتها في أية بقعة من العالم باستثناء موقفها المبدئي الرافض للحرب على العراق في 2003 إلى جانب فرنسا وألمانيا، والذي لم يحل دون شنّها. غير أن التحول الفعلي في تقديرها لنوايا واشنطن حيالها حصل في 13 كانون الأول 2001، عندما أعلنت إدارة بوش الابن خروجها من معاهدة منع بطاريات الصواريخ المضادة للصواريخ الموقعة بين واشنطن وموسكو في 1972. عنى هذا الخروج أن واشنطن تريد إعادة النظر بمبدأ الردع النووي المتبادل بين الدولتين وحرمان روسيا من القدرة على القيام بالردّ على هجوم نووي أو صاروخي تبادر هي إليه. وأتى الاتفاق بين الولايات المتحدة وكل من بولندا وتشيكيا على نشر مثل هذه البطاريات على أراضيهما في 2007 ليعزّز من مخاوف موسكو من النوايا المذكورة. تلى ذلك قمة الناتو في بوخارست في 2008 ومطالبة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بضم أوكرانيا وجورجيا إليه. عمدت القيادة الروسية بداية إلى استعراض قوتها ضد جورجيا في العام نفسه لإفهام دول الحلف بأن إدخالها إليه هو خط أحمر، واندرجت العملية العسكرية ضد أوكرانيا في 2014، وضم جزيرة القرم، في الإطار نفسه، أي منع دخول هذا البلد إلى الناتو بالقوة. شهدنا أيضاً في الفترة إياها عودة لسباق التسلح في مجال الأسلحة النووية التكتيكية والصواريخ الفرط صوتية إضافة إلى منظومات السلاح التقليدية كالطيران والمدفعية والمدرعات بين موسكو وواشنطن. وقد أشارت وثيقة استراتيجية الدفاع الوطني التي أصدرتها إدارة ترامب في 2018 إلى التقدم الكبير الذي أنجزته روسيا على مستوى قدراتها العسكرية، مما حدا بها لتصنيفها منافساً إستراتيجياً و«قوة تحريفية» تسعى لتغيير النظام الدولي الليبرالي، جنباً إلى جنب مع الصين. روسيا في خضمّ مواجهة استراتيجية كبرى ومتعددة الأبعاد مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وقرار النخبة السياسية الأوكرانية بالانضمام إليه، بالتالي المشاركة في استراتيجية حصار روسيا، حوّل بلدها إلى إحدى ساحات هذه المواجهة. كان من الممكن لهذه النخب أن تقبل بفكرة تحييد أوكرانيا، وفقاً لنموذج فنلندا خلال الحرب الباردة، غير أن ارتباطها العضوي بالولايات المتحدة وثقتها العمياء بقدرتها على توفير الحماية لها حفّزاها على تبني هذا الخيار الانتحاري.