لعبة بوتين لزحزحة التاريخ | روسيا في أوكرانيا: هدفٌ في مرمى الغرب
الأخبار
وفي انتظار جلاء صورة ما سيقوم به الجيش الروسي لضمان أمن المنطقتَين «بناءً على تطوّرات الوضع على الأرض» بحسب إعلان الكرملين، يبقى أكيداً أن هذه الخطوة سيكون لها أثرها المباشر على الوضعَين الأمني والعسكري في إقليم دونباس، إذ إن موازين القوى هناك ستختلّ بوضوح بسبب الفوارق الكبيرة بين الجيشَين الروسي والأوكراني لمصلحة الأوّل، ما سيجعل كييف مرغمة على التفكير كثيراً قبل الشروع في أيّ خطوة عسكرية في الإقليم، الذي كانت تستعدّ لـ«غزوه»، بحسب ما اتّهمتها أخيراً به موسكو وسلطات لوغينسك ودونيتسك. وعليه، يمكن القول إن دخول الجيش الروسي بثقله العسكري إلى دونباس، من شأنه حرمان كييف من كلّ الآمال في التوصّل إلى حلّ عسكري للصراع، وما التجربة الروسية في جزيرة القرم وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، إلّا دليل واضح على ذلك. إلّا أنه على رغم ما تَقدّم، أكد وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي رزنيكوف، أن بلاده ستدافع عن «سيادتها»، مخاطباً جنوده بأنه «سيتعيّن علينا تحمُّل الألم وتجاوز الخوف واليأس»، ما يوحي بأن كييف قد تكون قادمة على مزيد من الخطوات العسكرية في دونباس، مقابل إصرار قوات الأخير على استعادة الحدود التاريخية للإقليم، الأمر الذي يرجّح حصول توتّر عسكري «محدود» بين روسيا وأوكرانيا، قد يستمرّ لسنوات، بحسب ما يحتمل خبراء عسكريون روس.
وبغضّ النظر عن ما ستؤول إليه الأزمة في دونباس، إلّا أن اعتراف بوتين باستقلال «الجمهوريَّتين»، أثبت أن لدى روسيا «إيديولوجيا جديدة للسياسة الخارجية» و«استراتيجية» و«خططاً جرى تطويرها منذ وقت طويل ووُضعت على الطاولة»، وفق قراءة الخبراء الروس، إذ أكدت موسكو، من خلال خطوتها هذه، لـ«المجتمع الدولي»، عزمها على الدفاع عن مصالحها، من دون النظر إلى ردّة فعله «المتوقّعة»، بحسب ما جاء على لسان وزير الخارجية، سيرغي لافروف. كما أكدت أنه بعد انتظارها نحو 7 سنوات لتطبيق «اتفاقات مينسك» لحلّ أزمة دونباس، لم تَعُد معنيّة أبداً بالالتزام بهذه الاتفاقات التي ربّما تكون قد انتهت فعلياً، على رغم إعلان موسكو استمرار تأييد مسار الدبلوماسية. وإذ تدرك روسيا، بناءً على تجربتها مع الغرب، أن ردّة الفعل الدولية لن تتخطّى مجرّد عقوبات ستُفرض عليها، وهو ما أشار إليه بوتين في خطابه أوّل من أمس إلى الشعب الروسي، فهي استعدّت جيّداً للعقوبات المتوقّعة، بحسب تأكيد رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين. وأكثر من ذلك، بدأت تخرج دعوات من خبراء روس إلى الحكومة الروسية، لاتّخاذ إجراءات عقابية مضادّة، وتحديداً ضدّ أوكرانيا، التي كلّفت روسيا نحو 250 مليار دولار منذ عام 1991 حتى الآن. وبرأي الخبراء، فإن هذه العقوبات ستجعل كييف ترضخ للطلبات الروسية.
وإذا كانت روسيا قد حقّقت مصالح استراتيجية واقتصادية عبر الاعتراف بـ«الجمهوريتَين»، فإن أوكرانيا تُعدّ الخاسر الأكبر ممّا حصل. فبعد ثماني سنوات على تضييعها شبه حزيرة القرم لمصلحة موسكو، ها هي اليوم تفقد منطقتَين مهمّتَين، في حين قد يساهم القرار الروسي في تحرّك مناطق أخرى في جنوب شرق أوكرانيا، وتحديداً في أوديسا وخاركوف، حيث تسود المشاعر المؤيّدة لروسيا، وترتفع المطالبات بإعادة التوحّد معها. إضافة إلى ذلك، تخسر أوكرانيا، التي تعاني اقتصادياً، منطقة كانت تشكّل نحو 16% من إجمالي ناتجها المحلي، ونحو 27.3% من الصادارت الصناعية – أكثر من أيّ منطقة أخرى من البلاد -، ونحو 23.3% من حجم تصدير السلع والخدمات، وفقاً لآخر أرقام رسمية في عام 2013. وتُظهر الأرقام، أيضاً، أنه منذ بداية الأزمة في عام 2014، فقدت كييف ما لا يقلّ عن 10% من ناتجها المحلّي الإجمالي وخُمس عائدات صادراتها، إضافة إلى تكلفة كبيرة في مجال الطاقة، حيث اضطرّت لشراء الفحم. كما أن تَوجّه اقتصاد «الجمهوريتَين» المعلنتَين بالكامل إلى السوق الروسية، يُعدّ ضربة إضافية كبيرة لأوكرانيا.
يُضاف إلى ما تَقدّم، أن الخطوة الروسية سيكون من شأنها تعقيد انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو»؛ إذ ليست ثمّة سابقة تاريخية حتى الآن، جرى فيها قبول دولة لديها مشكلة حدودية غير مستقرّة، داخل الحلف. ومع ذلك، لا يستبعد الخبراء الروس أن يواصل «الأطلسي» تطوير التعاون العسكري مع أوكرانيا، وتزويدها بأنظمة أسلحة جديدة، وتدريب جيشها. وعلى رغم إعلان الكرملين أن موسكو لا ترغب في قطع العلاقات الدبلوماسية مع كييف لتأثيره على العلاقات بين البلدين والشعبين، إلّا أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أعلن أن بلاده تدرس قطع علاقاتها مع روسيا، بالتزامن مع دعوته موسكو إلى حلّ القضية «من خلال الحوار بأيّ صيغة كان». وبينما استدعت أوكرانيا القائم بأعمالها في موسكو للتشاور، يُرجّح أن تعلن أيضاً انسحابها من عدد من المعاهدات الثنائية مع روسيا.
قراءة روسية للتهويل الغربي
لم يأتِ قرار روسيا بالاعتراف باستقلال منطقتَي دونيتسك ولوغانسك الواقعتَين على حدودها مع أوكرانيا، إلّا بعد حملة غربية شرسة اعتمدت من جهة التحشيد العسكري في شرقيّ أوروبا، ومن جهة أخرى التهويل الإعلامي من غزو روسي قريب للأراضي الأوكرانية. وهو تهويلٌ لا يزال يُقرأ في موسكو، بحسب مصدر دبلوماسي مطّلع تحدّث إلى «الأخبار»، على أنه محاولة «لتصعيد توتّر مصطنع، من خلال بثّ كمية هائلة ومنسّقة من المعلومات الكاذبة خدمةً للمصالح الجيوسياسية للغرب، وصرفاً للانتباه عن خطّته العدوانية». ويضيف المصدر أن هذه الحملة، التي بدأت منذ مطلع العام الحالي، تجاهلت كلّ الشروح «العقلانية» للمسؤولين الروس بخصوص الوضع في أوكرانيا، وضرورة المُضيّ في تطبيق «اتفاقيات مينسك»، فضلاً عن مخاوف موسكو من الإمدادات العسكرية واللوجستية والفنّية الغربية المتواصلة لكييف، ومحاججتها بالطبيعة الدفاعية لتدريباتها مع القوّات المسلّحة البيلاروسية. ويتابع أن البروباغندا الغربية تعمّدت «تشويه» مطالب روسيا «العادلة» في ما يتّصل بالضمانات الأمنية، مقابل تبرير «التطلّعات الجيوسياسية للغرب وتوسّعه العسكري على الأراضي الأوكرانية». ويُذكّر المصدر بأن الدعاية الغربية هذه قادتها وسائل الإعلام الغربية الأكثر شهرة، وفي مقدّمتها وكالة «بلومبيرغ»، التي نشرت، مثلاً، قبيل افتتاح الدورة الـ22 من الألعاب الأولمبية في الصين، أن الأخيرة طلبت من روسيا تأجيل غزوها لأوكرانيا، وهو ما نفته كلّ من بكين وموسكو. كما يُذكّر بأن الوكالة نفسها نشرت، في 5 شباط 2022، عنواناً عريضاً مفاده «روسيا تغزو أوكرانيا»، وهو ما أحدث بلبلة كبيرة دفعت المحرّرين إلى إصدار بيانٍ يوضحون فيه أن هذا الخبر كان «خطأ». والمفارقة، بحسب المصدر، هو أن المسؤولين الغربيين كانوا يتعمّدون تجنّب إعطاء تقييم واضح لذلك الضخّ الإعلامي الهائل، وهو ما يثبت، بحسبه، «شراكتهم في الدعاية السوداء»، ضدّ روسيا.