ناصر قنديل-البناء
– بنت واشنطن ومن خلالها حلف الناتو استراتيجية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، على معادلة يكاد يكون لها ركيزة واحدة، هي منع قيام علاقة تعاون بين روسيا وأوكرانيا، عملاً بالنظرية التي صاغها مبكراً في أيام الاتحاد السوفياتي، المفكر الأميركي الاستراتيجي زبيغنيو بريجنسكي، تحت عنوان روسيا دولة كبيرة وكبرى لكنها مع أوكرانيا إمبراطورية، واذا كانت كل وثائق حلف الناتو قد قامت على تصنيف روسيا طوال مرحلة ما بعد نهاية الحرب البادرة كعدو محتمل، ثم عدو وشيك، ثم عدو أكيد، ثم عدو خطر وأول، كما قالت آخر هذه الوثائق، فإن كلام الرئيس الأميركي جو بايدن ومستشار أمنه القومي ووزير خارجيته ووزير دفاعه، ترجم هذه التوصيفات بتعابير أشد عدائية تجاه روسيا، لكن ترجمة هذا التشخيص بقيت تجد نفسها بالاستثمار على جعل أوكرانيا ساحة تصعيد بوجه روسيا.
– جاء انقلاب 2014 الذي أطاح بحكم صديق لروسيا في أوكرانيا، من بوابة ثورة ملوّنة تشبه ما جرى خلال الربيع العربي باستثمار مليارات الدولارات، في جمعيات مجتمع مدني وحركات فاشية قومية، والتركيز على الفساد الذي طبع النظام الأوكراني، لكن عائد هذا التغيير لم يتحول الى مدخل لإقامة نظام المصلحة الوطنية في اوكرانيا، بل كان مجرد واسطة ومدخل لبدء تطبيق خطة أكمل لمحاصرة روسيا، بعدما كان الناتو قد نجح تباعا بضم دول البلطيق وأغلب دول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي قبل تفككه أو عضواً في حلف وارسو قبل حله. وجاءت الخطوة المفاجئة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإعلان ضم شبه جزيرة القرم، رسالة ردع فاجأت واشنطن والناتو، وخلطت الأوراق. وقد كشف بوتين أمس انه اتخذ خطواته تجاه القرم وفقاً لمعلومات مؤكدة بنية الغرب ومن خلفه واشنطن، بجعل القرم قاعدة لحلف الأطلسي على البحر الأسود تحكم محاصرة روسيا بعيداً عن المياه الدافئة، وهو بذلك أكمل خطوة رادعة سابقة قام بها بوجه محاولة تحويل جورجيا إلى قاعدة للناتو، عندما استعاد عسكرياً أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا من أيدي القوات الجورجية.
– خلال اتفاقيات مينسك حرصت روسيا على تأكيد عدم اعترافها بجمهوريتي دونباس، مقابل حل سلمي لأزمة علاقتهما بكييف، وخلال ثماني سنوات بقيت كييف تراوغ، ومن ورائها واشنطن والناتو، بخلفية اقتناص الفرصة لحسم الموقف عسكرياً، وهو ما تعتبره واشنطن رداً للاعتبار بعد الانسحاب من أفغانستان، وإعادة إمساك بعنق أوروبا مجدداً، وتعويض للفشل في خطة الانقلاب في كازاخستان، ولذلك وجهت الاتهامات الى موسكو بنية غزو أوكرانيا، وتمّ دفع شحنات الأسلحة الى أوكرانيا، وفقاً لما كشفه بالتفاصيل كلام بوتين، فدون الاتهام كان كل ذلك سيبدو استفزازاً غير مبرر لروسيا، وكان الرئيس بوتين يضع الأمور على مفترق طرق بين الحل الدبلوماسي من بوابة اتفاقات مينسك، بحل سلمي للوضع في دونباس، او الرد على التمسّك بالحل العسكري عندما يبدأ بالاعتراف بجمهوريتي دونباس وتوقيع اتفاقيّة تعاون دفاعيّ معهما.
– ما فعله بوتين أمس، أنه قلب الطاولة، وقال للأميركيين ومَن معهم، اركبوا أعلى خيلكم، فكل محاولة لحسم عسكري في دونباس صارت مشروع حرب مع روسيا، فمن يظن ذلك ممكناً فليفعل، ومن قال إن منع تمدد الناتو الى الجوار الروسي يشكل تصعيداً روسياً وتغييراً لخريطة اوروبا وقواعد النظام العالمي، عليه أن يتعامل مع هذا التغيير لخريطة اوروبا وقواعد النظام العالمي عملياً، وليس نظرياً، وقد بدأت موسكو بالأفعال تردّ على الأفعال، كما فعلت في سورية وكازاخستان، وفي القرم وأوسيتيا وأبخازيا سابقاً، وعلى ألمانيا خصوصاً أن تختار بين ان تدفع ثمن استقرارها الاقتصادي والسياسي بتحييد نفسها عن هذه الحرب، أو أن تترك الأميركيين يلعبون بمستقبلها، ويدمرون اقتصادها، فكل ما يحكيه الأميركيون عن العقوبات الاقتصادية تافه، من دون وقف تدفق الغاز الروسي إلى ألمانيا. واذا كانت روسيا ستخسر كما خسرت في حرب الأسعار التي شنتها عليها واشنطن بواسطة السعودية كرد على تموضع روسيا في سورية، لكن ألمانيا ستكون الخاسر الأكبر.