نبيل هيثم-الجمورية
بالأمس قالها رئيس مجلس النواب نبيه بري من القاهرة: «لبنان يعاني من «كورونا سياسية» أوصلته الى ما وصل اليه».
ما صدر عن بري، لا يقتصر على التوصيف لواقع لبناني مرير تطحنه – بالتكافل والتضامن – أزمة اقتصادية ومالية ومعيشية خانقة، والتهابات خطيرة ضربت رئة البلد السياسيّة وعطّلتها، ونجم منها «انعدام سياسي» أفقده، حتى قدرة التنفس الاصطناعي، وهوى بأزمته، ولا يزال، نحو نقطة الارتطام الكارثي. بل هو توصيف يستبطن «خريطة طريق»، قد تمثل فرصة أخيرة لالتقاطها قبل استنفاد الوقت المتبقي للبلد لحفر ثغرة إنقاذ، والعودة بوطن صنّفه البنك الدولي حالياً بين الدول الثلاث الأكثر معاناة من أزماتها في العالم، الى موقعه، حيث كان يُسمّى «سويسرا الشرق».
وبمقدار ما أنّ توصيف بري موجّهاً الى المصريّين او للعرب، فهو بلا أدنى شكّ موجّه الى اللبنانيين المأزومين بكلّ فئاتهم وشرائحهم ومستوياتهم، ليحدّد الدّاء والدواء في آن معاً. وليؤكّد جازماً انّ حاجة لبنان، إن كانت كبيرة الى دعم الأصدقاء والأشقاء، ومصلحته في تضامنهم معه وفي ما بينهم، فإنّ حاجته بالتأكيد أكبر إلى تضامنه مع نفسه.
تُقرأ في طيّات كلام رئيس المجلس حسرة على ما بلغه حال البلد. لكنّ المسؤولية توجب عدم الاستسلام لليأس او دفن الرؤوس في الرمال. فثمة نور ما زال موجوداً في الأفق لعله يضيء عتمة الأزمة، المفتوحة على شتى الاحتمالات السلبيّة. لكن الشرط الأساس هو أن تعود لحظة العقل والتعقّل من هجرتها، ويُحسن إدراك فرصة النور هذه قبل أن يُطفأ وتحلّ الكارثة العظمى.
اكّد بري بكلّ ثقة «أنّ لبنان ليس مفلساً حتى الآن»، وقال صراحة، انّ هذا البلد المأزوم «ما زال يكتنز على عوامل قيامته من جديد». ولكن بدا جليّاً أنّ هذه الـ«حتى الآن» تستبطن قلقاً واضحاً من أنّ استمرار «الكورونا السياسية» واستفحال تفشيها وتفاعلها المَرَضي في غياب الإحساس بالواجب وبالمسؤولية السياسية والوطنية والاخلاقية والدستورية والقانونية، وكذلك عدم توافر اللقاحات الوطنية الجامعة لأهل البلد ومكوناته السياسية حول مصلحته، سيؤدي حتماً إلى «التفليسة» التي ما زال تداركها ممكناً. فهو أكّد أنّ لبنان ما زال قابلاً للحياة، والحلول ليست مستحيلة:
ـ أولاً، أن تبرهن المكونات اللبنانية في الموالاة والمعارضة وما بينهما، انّها تمتلك قدرة ان تقوم بشيء آخر غير التموضع الدائم في متاريس الخلاف والانقسام والتناكف والأجندات، وتدرك الخطيئة المرتكبة في حق هذا البلد، وان تستشعر ولو متأخّرة، خطورة هذه المرحلة المصيرية التي تهدّد وجود لبنان.
ـ ثانياً، أن تدرك أطراف الانقسام الداخلي، ولو متأخّرة، أنّها مهما علا صراخها، وفُتِنت بشعاراتها وعناوينها، ومهما وسّعت بيكاراتها اوسع من مساحاتها ونفخت أحجامها وعضلاتها، هي أصغر من أن يقدر أيّ منها على إحداث انقلاب أو تغيير في الموازين الداخلية، او فرض أمر واقع يغلّبها ويجعل كلمتها هي العليا، ويضع عصمة البلد في يدها، فهذا اعتقاد ليس خاطئاً فقط، بل هو ضرب من الهبل والغباء، والتجارب كثيرة في هذا البلد، ودفع أثمانها اللبنانيون في البشر والحجر.
ـ ثالثاً، في كلامه، لم يرمِ افتراء على هذا الطرف او ذاك، بل سلّط على أزمة صناعتها لبنانيّة في معظم اسبابها، تفاقمها هشاشة موجعة في الوضع السياسي، والآثار المدمّرة لـ«الانعدام السياسي» الذي أدخل البلد في نفق لا يعلم احد في الداخل نهايته وما ينتظره في آخره. فالرسالة التي أراد بري إيصالها مفادها، انّ الفرصة ما زالت مؤاتية لجعل المرحلة الحالية بالمصاعب التي تعتريها، انتقالية بالفعل من العتمة الى النّور، عبر التحلّي بشيء من الوطنية، والانخراط قولاً وفعلاً، في معركة وجودية من أجل لبنان تُخرجه من أزمته، وليس في معارك على لبنان تسرّع مساره نحو جحيم لا قيامة منه.
ولعلّ الشرط الأساس لجعل هذه المرحلة انتقالية بالفعل الى الأفضل، هو الانتقال من النزعة «النيرونية» التي تعشش في نفوس البعض، والمستعدة لحرق البلد والاستمتاع بمشهد النيران، الى صحوة ضمير من صرخات اللبنانيين وأوجاعهم. وأخذ العِبَر والدروس من هذا الواقع ومسبباته، ومن المرارات المتتالية التي تراكمت على مدى سنين طويلة وأوصلت البلد الى حافة الاندثار والزوال. وبالتالي، خروج أطراف الانقسام الداخلي من خلف متاريس العداء وتصفية الحسابات وعِقَد الأنانيات والكيديات والمصالح والشخصانية وحقد الطائفية والمذهبية، وشعورها بوطنيّتها، ولو لمرّة واحدة، والانحراف الإيجابي هذه المرّة في اتجاه بلورة تسوية سياسية تحتوي الأزمة وتعالج أسبابها وتحصّن البلد من تداعياتها وارتداداتها، وتجنّب اللبنانيين آثارها المدمّرة وتحرّر ودائعهم وتحرّر لبنان من المافيات.
«اتفاق الطائف» كما اكّد عليه بري هو الأساس ولا بديل منه، وتطويره ضروري وصولاً الى الهدف الأسمى بتحقيق الدولة المدنية. ولكن مع استفحال «الكورونا السياسية» وتجاهل المصابين بهذا «الفيروس» الواقع المأزوم حتى الاختناق، وانعدام النيّة في تغيير النهج المَرَضي المتّبع، ستبقى المتاهة اللبنانية مفتوحة على احتمالات ومصير أسود، وكل شيء في هذا البلد مهددٌ بالتداعي والسقوط، بحيث لا يبقى منه شيء.. وها هي بدأت تتداعى وتتجلّى في المشاهد المؤذية لمؤسسات الدولة وأجهزتها القضائية والأمنية وغيرها، التي بدأت تتنازع في داخلها وفي ما بينها!
تلك هي رسالة بري، بخريطة طريق الإنقاذ التي تضمنتها، القاها كصرخة مدوّية في صحراء البلد. والرهان يبقى على ان تجد في الداخل من يتلقفها، قبل ان يغور هذا البلد في ما وصفه بري بـ«الثقب الاسود».
لقد قرن بري رسالته تلك بمسلّمتين، الأولى إجراء الانتخابات النيابية في موعدها منتصف أيار المقبل. حيث اكّد للداخل والخارج في آن معاً، انّ هذا الاستحقاق حاصل في موعده حتماً، وبتأكيده ان لا قدرة لأي طرف على تعطيل الانتخابات، يقطع بذلك الطريق على لعبة الاستثمار التي دأبت عليها بعض الغرف، بإثارة الغبار على الاستحقاق الانتخابي ومحاولة تسويق مزحة ثقيلة، القصد منها التشويش وإرباك الداخل بكل مستوياته، وكذلك الخارج، تارة عبر اختلاق روايات وسيناريوهات تشكيكية حول هذا الطرف او ذاك، وتارة اخرى بالحديث عن نيات تعطيلية ثبت أن لا أساس لها.
واما المسلّمة الثانية، فمرتبطة بملف ترسيم الحدود البحريّة، حيث أعطى للجولة الاخيرة للوسيط الاميركي آموس هوكشتاين حجمها، ولم يذهب كما ذهب آخرون «لأسباب غير مفهومة»، الى الإفراط في التفاؤل، وبدأوا يروجون انّ الاتفاق صار ممكناً وقريباً، وهذا يتطلب تنازلات متبادلة. ما كشفه بري اكّد انّ جميع الوسطاء الاميركيين سمعوا منه الكلام نفسه منذ بدء تصدّيه لهذا الملف قبل اكثر من عشر سنوات، وحرفيته انّ لبنان لا يمكن ان يتنازل لا عن مياهه ولا عن حدوده، «قلت للمفاوضين الاميركيين انني – كلبنان – لا اريد من المياه الفلسطينية مقدار كوب، أنا اريد أن ارسّم الحدود، فإذا كانت حصتي كيلومتر فأنا مقتنع، وإذا كانت الفين فلن اتنازل عن سنتيمتر منها». والأهم انّ بري كان حاسماً في تحديد نتيجة جولة هوكشتاين الاخيرة، حيث قال انّه لاحظ «تغيّراً وحيداً، وهو وجود تفاؤل كبير من جانب الوسيط الاميركي.. لكنني لست متفائلاً، لأنني اعرف نيات اسرائيل التوسعية والعدوانية».
الواضح في هذا السياق، انّ بري الأكثر عمقاً ودراية في ملف الترسيم، قد وضّح مسار ملف التفاوض وما بلغه حتى الآن بعيداً من أي مبالغات او ترويجات لا أساس لها. وانّ التفاؤل الذي أبداه هوكشتاين اشبه بشيك بلا رصيد، لا يمكن التعويل على خوائه، الّا إذا حصل في الايام المقبلة، ما لم يكن في الحسبان، وقام هذا الشيك على مؤونة تبرّر القول ساعتئذ إنّ في إمكاننا التفاؤل.