رضوان السيد -أساس ميديا
يلخّص هذا العنوان المشهد اللبناني الحالي بالفعل. دائماً في تاريخ لبنان الحديث ما كانت الانتخابات واعدةً ولا ميسَّرة. وكان التوجّس يأتي غالباً من السياسيين الطبيعيين الذين يخشون الضغوط المنظورة وغير المنظورة. وأذكر أنّه بعد انتخابات العام 2009، التي جاءت نتائجها مفاجئة تماماً لزعيم الحزب المسلِّح (أخيراً بالمسيَّرات والصواريخ الدقيقة المعروضة للبيع!)، قال لي عَرَضاً محرّر المقال الشهير في مجلّة Der Spiegel الألمانية عن اتجاه المحكمة آنذاك لاتّهام عناصر من حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري، خلال الحديث عن المقال وتأثيراته المحتملة: “لن تجري انتخاباتٌ في لبنان بعد اليوم إلاّ عندما يصبح نصر الله متأكّداً من الفوز”!
وعلى ذلك فإنّ نصر الله عام 2017-2018 ربّما كان استثناءً، بمعنى أنّه كان راغباً في إجراء الانتخابات، وأقلّ منه حماسةً لكنّه مقبلٌ أيضاً على الانتخابات: جبران باسيل وتيار الرئيس، وكلاهما بعد إقرار قانون الانتخابات العجيب. قبل تلك الانتخابات كان سعد الحريري يقول إنّه خاسر لكنّه لن يخسر أكثر من ثمانية مقاعد (!). أمّا الواقع فهو أنّه خسر حوالى 12 مقعداً والعياذ بالله.
المهمُّ الآن أنّ الأكثر إلحاحاً في الإعلان عن ضرورة الانتخابات هو زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع. وهو يأمل الاستفادة في المناطق المسيحية من انهيار شعبيّة التيار الوطني الحرّ. كما يأمل الإفادة في المناطق الأخرى من أصوات السُنّة الذين يتهافت بعضهم عليه، وبخاصةٍ بعد تواري سعد الحريري. إنّما الأكثر دعاوى بعد الدكتور سمير جعجع مَن يُسمَّون بـ”الجهات المدنية”، التي ما تزال تتمدّح بمشاركتها في ثورة العام 2019. وعندما قلت لبعض السُنّة الملهوفين إنّ جمهورنا محافظ ولن يُقبل على صناديق الاقتراع لأُناس يُكثرون من الحديث عن غرائب وعجائب تتّصل بالإنسان الفرد وبالعائلات، فاجأوني بالقول: لكنّ الشبّان والشابّات بالمهاجر سيكونون هم بيضة القبّان! وقلت: لكنّ حزب الله لن يقبَل، بالبصم على أصوات المغتربين، لأنّه موسومٌ بالإرهاب في كلّ مكان، فكيف سيتمكّن أحدٌ معتبر من التصويت له من هناك؟! وهذا يعني إمّا أن لا تجري الانتخابات أو تجري بدون أصوات المغتربين.
الجهات المدنية
لنعُد من جديد إلى الجهات أو الجبهات المدنية. فإنْ شارك هؤلاء فلن يكونوا موحّدين ولو بالحدّ الأدنى، وإلى ذلك فإنّ الصراع في المناطق المسيحية سيكون بين المدنيين وجعجع فيؤثّر التنافس سلباً عليهم وعلى جعجع، بينما يظنّ سامي الجميّل رئيس حزب الكتائب أنّه سينجو جزئيّاً شأنه شأن ميشال معوّض والمشابهين في كسروان، لأنّ عنده تحالفات مع بعض الجهات المدنية.
إنّما ماذا عن السُنّة وسط هذه المعمعة؟ الذين أعلنوا الترشّح وهم قلّة ليسوا ذوي شعبية ملحوظة، وهم غير محبوبين على كلّ حال، وليست لديهم تجربة أو تجارب واعدة، وهم غالباً من ذوي الثروات أو من أبناء وبنات ذوي الثروات؟ والأحباش والإخوان ما كانوا من جمهور الثورة بالطبع. بل إنّ الأحباش تحالفوا مع الحزب المسلَّح، والإخوان بحثوا عن حلفاء في كلّ منطقة للتمكّن من المنازلة. هل هذا هو التغيير الذي ننتظره بعد تواري سعد الحريري؟ بالطبع لا. ولذلك أبقى على رأيي في أنّ الجمهور المحافظ لن ينزل لصناديق الاقتراع، وقد يخدم ذلك الأحباش وأشباههم، والإخوان وأشباههم في بيروت وطرابلس.
لهذه الأسباب فكّرتُ مع زملاء وأصدقاء بشخصيّات جديدة يمكن أن تدفع الناس نحو صناديق الاقتراع، وبخاصّةٍ في بيروت التي تحتاج إلى ذلك بسبب رمزيّتها وكثرة أهل السُنّة فيها، والاختراقات التي حقّقها الحزب المسلّح ومَن هبَّ ودبَّ في صفوف فقرائها. نعم، لقد فكّرت بالدكتور نوّاف سلام الذي كان ممثّل لبنان في الأُمم المتّحدة، وهو الآن قاضٍ في محكمة العدل الدولية. نوّاف سلام بيروتيّ صميم، وليست عنده عداوات وإن لم يحبّه المسلَّحون الذين لا يرجو هو أصواتهم على أيّ حال، وذلك لِما قيل إنّه غربي، والسعودية تؤيّده. وبالإضافة إلى العائلات والجهات المستقرّة، التي ستُقبل عليه، فإنّ المدنيين لن يُعرضوا عنه، وربّما يساندونه بقوّة. إنّما هل نوّاف سلام مستعدّ؟ هو غائبٌ عن البلاد منذ مدّةٍ طويلة، وهو يحتاج إلى الأصدقاء المقيمين من ذوي التجربة. ومن المفهوم أنّه متردّد شأن كلّ الأشخاص “الطبيعيين” الذين يدخلون إلى الحلبة للمرّة الأولى، مع أنّه قديمٌ في العمل العامّ وإنْ من مواقع رسمية منذ عقود.
أعرف الدكتور نوّاف سلام منذ مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي. وهو شخصيّةٌ جدّيّة وذكيّة وحسّاسة، وهو معروف بالنجاح في المناصب التي أُتيح له أن يتولّاها. وإذا وجدنا أشخاصاً يشبهونه في طرابلس وعكار والبقاع، فأحسب أنّ التغيير والتجديد اللذين نبحث عنهما يكونان قد حصلا، ولا بأس إن لم يوفّقوا جميعاً هذه المرّة.
وأُريد أن أمضي أبعد من ذلك: ماذا لو لم تجرِ الانتخابات؟ إذا لم تجرِ الانتخابات أو جرت بأساليب غير ملائمة تحت وطأة المسيَّرات والصواريخ فإنّ الجدد، وفي طليعتهم نوّاف سلام، يكونون قد قدّموا أنفسهم باعتبارهم البديل للدولة المدنية والمخرج المأمول من تجارات الزعيم المسلَّح والطبقة السياسيّة الفاسدة، وفي طليعتها الطفل المعجزة.
الرواية الإنكليزية الشهيرة بعنوان “مَن يخاف فرجينيا وولف؟”، يتبيّن من فصولها أنّ المصدر الرئيس للخشية ما أتى من جانب الخصوم أو الأصدقاء، بل من جانب الشخصيّة نفسها. فلا بدّ من الإقدام مهما كلّف الأمر، وقد قال الرئيس رفيق الحريري أمامنا في مجلس عندما ترشّح لأوّل مرّة ونقل صوته إلى بيروت: أنا أتظاهر بالفرح والثقة، لكنّني مهموم بالفعل لأنّها تجربة جديدة تتطلّب إرضاء الجميع.