أيقونة مرحلة وصوت ساحر غنّى للحب والـفرح والسلام
أمس، انطفأ الفنان اللبناني (1948 ــ 2022)، في «مستشفى القديس جاورجيوس» في الأشرفية، بعدما خذله القلب، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً يزيد على 700 أغنية بلغات عدّة. لكنّ «غرندايرز» كان أكثر من مجرد صوت، إذ عكس في مسيرته الفنية العصر الذهبي للأغنية، كما مرحلة انزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية التي مزّقت أحلام جيل تلك الحقبة. لا تنسى أيضاً أغنياته ومواقفه الوطنية ونشاطه الداعي إلى السلام وسط النيران
ولد سامي حبيقة عام 1948 في ضهور الشوير، اكتسب من والدته عازفة البيانو حب الموسيقى. أثناء خدمته العسكرية الإلزامية، اكتشف موهبته الفنية حين التحق بفرقة الموسيقى العسكرية، ثم تنقل بين عدد من مدارس المتن، معلّماً مادة الموسيقى للأطفال. أراد التخصّص الأكاديمي في الموسيقى، لكن والده العسكري أصر على دخوله كلية الحقوق في «الجامعة اليسوعية»… ليتركها بعد عامين من الدراسة ويتفرغ لعالمه وأحلامه الموسيقية.
بصوته الجميل وإطلالته العصرية وتسريحته الشهيرة، بدأ سامي بصنع مجده الفني بدءاً من عام 1970 حين شارك في أحد المهرجانات الفنية في اليونان بناء على رغبة الياس الرحباني الذي غنى له jamais jamais. سيصبح الياس الرحباني لاحقاً أحد صنّاع مجد سامي كلارك، إذ جابا معاً مسارح العالم لمدة تربو على الثلاثين عاماً حملت أكثر من 70 أغنية ولحناً، أبرزها «قومي تنرقص»، «آه آه على هالايام»، «تامي خليكي هون»، «الفوتبول»، «برناديت»، «موري موري». والأخيرة حصدت الجائزة الأولى في «مهرجان الأغنية العالمية» في ألمانيا.
توالت المهرجانات والجوائز العالمية في مسيرة كلارك، فشارك في أكثر من 14 مهرجاناً في مختلف أنحاء العالم بين 1970 و1988، وفاز بالجائزة الأولى في النمسا (1980)، وبلغاريا (1981) والجائزة السادسة في اليونان وغيرها، ليكرّس نفسه مطرباً «نخبوياً» وجماهيرياً في آن في حالة نادرة في عالمنا العربي.
أعطى سامي كلارك للناشئة برامج تربوية ضمّت العديد من الأناشيد والأغنيات، و أعاد توزيع النشيد الوطني الذي اعتُمد في المدارس والمناسبات المختلفة، وغنى للوطن أثناء الحرب الأهلية، فحمل المتحاربين أغانيه كل بحسب أهوائه وانتماءاته.
مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أسّس جمعية «نيو ليبانون» (1976) التي تمكنت من استقطاب اكثر من 14 ألف شاب من شطري العاصمة المقسومة لوقف حد لمسلسل الدماء. وخلال «زمن السلم»، صرّح مراراً بأنّ «كل الزعماء الذين صنعوا الحرب عادوا ليحكمونا، هل يعقل ذلك؟».
* الأغنيات الوطنية
مع وضع الحرب أوزارها، طمح سامي كلارك لدخول البرلمان ليكون صوتاً للجميع. لكن ما يصح في الفن لا يصح في السياسة، فبقيت الأغنية في مسيرته هي الأعلى، فصدحت إذاعات الحرب الأهلية بأغانيه الوطنية مثل «رعد مدافعنا» و«رصاصتنا بتسوى مية» و«عسكر لبنان» للفنان اللبناني الراحل زكي ناصيف. كما أصدر ألبوماً وطنياً كاملاً في ثمانينيات القرن الماضي، تضمن العديد من الأغاني البارزة من شعر وألحان أنطوان جبارة أبرزها: «أرضي أرض البطولة»، و«وطني الحب وطني النار»، و«أنا جايي من الأحزان»، و«اسمي كتبتو عحد السيف»، و«أوتوبيس الثورة جايي»، و«وقف الشعب ورفع الصوت»، و«تايعيشوا ناس ويموتوا ناس»…
مع الجماهيرية الواسعة التي عرفتها أغنياته، غدا سامي كلارك عنواناً بارزاً لاستحضار مرحلة الثمانينيات، فأغنياته استحالت مرادفاً مباشراً لذكريات الحرب التي تتحول إلى نوستالجيا عندما تترافق مع صوته، فعمدت الدراما العربية الحقبوية التي ترصد تلك المرحلة، لتضمين شريط الصوت غالباً لأغنية من «ريبرتواره» في دليل على أنه كان وبحق «صوت فترة الحرب الأكثر بروزاً».
* التجربة المختلفة
كلارك الذي أدى أكثر من 700 أغنية عن الحب والغرام والوطن والوجع والسلام والفرح غنى أيضاً للإيمان بـ«سيدي أعطنا من هذا الخبز» من ألبوم «كيرياليسون» لزياد الرحباني الذي استعادها في «مهرجان بيت الدين» عام 2018 وشكلت مفاجأة فنية سارة. ورغم أنّ العديد من الفنانين اللبنانيين بدأوا مسيرتهم بالأعمال الأجنبية مثل جوليا، وباسكال صقر، وكارول صقر، وغريس ديب، وحتى ماجدة الرومي، إلا أن كلارك يبقى الأبرز بين الجميع الذي ردد جمهوره أغنياته الأجنبية كما العربية مثل take me with you وغيرها، بالإضافة إلى غنائه بالفرنسية واليونانية والروسية والإيطالية.
* عالم الرسوم المتحركة
كل تلك النجاحات والجوائز في مسيرة سامي كلارك، لم تخفف وهج شهرته الأكبر عربياً مع تأديته شارة أغنية «غرندايزر»، بذلك الصوت الجهوري الساحر الذي خطف ألباب أطفال العالم العربي من المحيط إلى الخليج، مرددين «علّ علّ بطل فليد»… هو الذي كان قد أعلن العام الماضي عن عزمه إعادة تسجيلها مع «فرقة إيهاب درويش» المؤلّفة من 180 عازفاً و30 شخصاً من الكورال. كما غنى كلارك شارة المسلسل الكارتوني «جزيرة الكنز» و «السبع المدهش».. وقدم عام 2019 عرضاً مبهراً تضمن أجمل أغنيات الكارتون التي تعلق بها الأطفال في الدول العربية على مدار سنوات عديدة، في ختام فعاليات معرض «MAS MASH 2019 للرسوم المتحركة في الدول العربية» الذي أقيم في أبو ظبي.
* المسلسلات والأفلام
طرق سامي أبواب التمثيل مع مسلسل «في ظلال الحب» (عام 1978) لإيلي سعادة، وفيلم «آخر الصيف» (1980) لمروان الرحباني، ومسلسل «لمن تغني الطيور» (1981) لإيلي سعادة، وأفلام «حسناء وعمالقة» (1981) و«لعبة النساء» (1982) لسمير الغصيني، و«الممر الأخير» (1982 ــ إخراج يوسف شرف الدين) الذي تضمن أغنية «قلتيلي ووعدتيني» التي أصبحت على كل شفة ولسان. ورغم تلك الأدوار، إلا أن سامي كلارك كان يعتبر دائماً أنه لم ينجح في التمثيل بقوله «مش شغلتي مثّل»، فخرج من الميدان لأنه لم يجد نفسه كممثل، وهو الذي كان يتألم دائماً لأوضاع الفن اللبناني من تمثيل وغناء. إذ طالب في لقاء له مع مجلة «الحوادث» عام 1996 استحداث وزارة فنون جميلة مستقلة في لبنان تضم كافة النقابات الفنية في شكل هرمي منظم تركز على التثقيف الفني للمواطنين موسيقياً وفنياً بدءاً من المدرسة وتسهم في مساعدة الفنان اللبناني في ظروفه الصعبة التي يعيشها ولتنظيم المهنة.
* الخطأ الكبير
طوال مسيرته، دافع سامي كلارك عن كرامة الفنان اللبناني. ويسجل له في هذا الإطار غضبته ضد قناة «أم بي سي» بعدما طلبت منه إدارة برنامج «فويس سينيور» للمواهب فوق الـ 60 عاماً مشاركته كهاو، وعدم تقدير مسيرته وفنه ونجاحاته وجوائزه كفنان لبناني استطاع أن ينال إعجاب العالم. هكذا، رمت القناة تاريخه، وطلبت منه بصفاقة أن يشارك كمبتدئ، وهو الذي كان يتوقع منها الطلب منه الانضمام للجنتها التحكيمية.
* الإفلاس الفني
كلارك الذي عايش الحرب الأهلية، كان يعتبر أن الحرب الاجتماعية والانحطاط الخلقي أشد خطورةً، متحسراً على الإفلاس الفني الحالي واختلال ميزان الفن الذي أصبح شكلاً وعلاقات، ولم يعد كما عايشه أيام عصره الذهبي عندما كان كلمة ولحناً وثقافة. آمن طوال حياته بالفن سبيلاً للسعادة في الحياة وممراً لكل ما هو جميل. ومن هذا المنطلق، تبنى مواهب فنية عديدة وطاف بها أرجاء العالم والمهرجانات. وقد نجح في تمثيل لبنان وخدمة الأغنية اللبنانية والمساهمة في إطلاق القدرات الفنية الغنائية وإفساح المجال للمواهب بالظهور. استغل عضويته في «الاتحاد الدولي لمنظمي المهرجانات في العالم» (الجهة التي تعنى بتنظيم المهرجانات العالمية الكبرى انضم إليها منذ عام 1975) لإرسال المواهب إليها، كما حدث مع باسكال صقر، والأميرة الصغيرة، وجمانة مدور التي فازت بالجائزة السابعة في «مهرجان القاهرة الدولي للأغنية» عام 1997 عن أغنية «خبيني من العمر» أمام 52 مشتركاً من 32 دولة.
* تكريمات وجوائز
بالإضافة إلى الجوائز الفنية، نال كلارك تكريمات وطنية منها وسام الاستحقاق اللبناني الفضي «ذا السعف» الذي قلّده إياه الرئيس اللبناني السابق إميل لحود على خلفية نشاطه الوطني والفني. كما كان ضيفاً مكرماً في «مهرجان شفشاون الدولي لفيلم الطفولة والشباب» (المغرب) عام 2015. إطلالاته الإعلامية والفنية كانت نادرة، منها ظهوره في برنامج «حديث البلد» على mtv مع فرقته The Golden Age (العصر الذهبي) التي تضمّ زميليه الأمير الصغير وعبدو منذر، وكذلك حفلته في الأردن عام 2015. وفي عام 2018، طرح أغنية «لولاكي» (كلمات غازي مراد وألحان إيهاب درويش). وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، كان لقاؤه مع كارلا حداد في برنامج «في male» مع أصدقائه من فناني الزمن الجميل مارون نمنم والأمير الصغير وفهد عقيقي.
* تقام مراسم دفن الراحل الثالثة من بعد ظهر غد في كنيسة «مار جرجس» في الشوير. وتقبل التعازي قبل الدفن وبعده في صالون الكنيسة من الحادية عشرة قبل الظهر حتى السادسة مساء، والاربعاء في صالون «كنيسة مار الياس الحي للروم الارثوذكس» في المطيلب – الرابية من الثالثة بعد الظهر حتى السادسة مساء.