نجيب ميقاتي يحثّ الناس على الوحدة والتضامن لتحمّل الأعباء الإضافية في الموازنة الجديدة. إذ لا يصحّ، على حدّ تعبيره، أن تُقدَّم الاتّصالات والكهرباء بشكل مجّاني، فيما تعاني الدولة أزمةً خانقةً تستدعي وقوف الجميع إلى جانبها.
هكذا قال الرجل بالحرف. وما يختصره من استفزاز مكثّف. بهذا الأسلوب الذي يلامس السخرية والتهكّم. بهذا الوضوح. بالصوت والصورة. ما يقطع الطريق تماماً أمام أيّ تأويل أو “تحوير”. بل وبانفعال ملحوظ يشبه إلى حدّ كبير الخطاب التأديبيّ الذي لا يخلو من لذعة مقصودة. لكنّ ما يبعث على الريبة والقلق أنّ اللبنانيين قابلوه بلامبالاة مدهشة، وكأنّهم غير معنيّين على الإطلاق بما ورد على لسان رأس السلطة التنفيذية من قرارات تمسّ يوميّاتهم على نحو مباشر، ولو جَرُؤ أيّ مسؤول في أيّ دولة محترمة على التلويح بكلام مماثل، لاهتزّت عروش وارتعدت فرائص.
ما يبعث على القلق أكثر هو الصمت المطبق لأهل طرابلس. مدينة نجيب ميقاتي وأفقر مدن المتوسّط بلا منازع. وهي التي عانت، ولا تزال، أفظع وأقدح تداعيات العوز والحرمان وأرذل سياسات الاستهداف والتهميش، وما نالت يوماً إلا وعوداً وشعاراتٍ ذهبت كلّها أدراج الرياح، حتى صار المطلوب من أهلها أن يتحمّلوا، بل أن يُضاعفوا قدرتهم على الاحتمال، كرمى لعيون الموازنة، التي يريد نجيب ميقاتي أن يُموّلها من جيوبهم المشرّعة أمام عمليّات النهب الممنهج والموصوف.
ليس ثمّة ما يُمكن فهمه أو ترجمته نتيجة هذا الصمت. لأنّه صمت مرعب ينطوي على كارثيّة ما نحن بصدده. وهو يشير بشكل أو بآخر إلى انعدام أيّ أفق جدّيّ لتغييرات سياسية أو اجتماعية عميقة استناداً إلى الأزمة الفاحشة التي حلّت بالبلاد. وهذا يعني، في ما يعني، أنّ الانتخابات النيابية المقبلة لن تُغيّر في المشهد قيد أنملة، بل ستعيد تشريعه باعتباره أمراً واقعاً لا فكاك منه، ولأنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه، فقد جاء كلام نجيب ميقاتي ليؤكّد، من حيث يقصد أو لا يقصد، أنّ الناس ماتت، بل وأوغلت عميقاً في موتها.
هذه ليست دعوة إلى التشاؤم أو اليأس. لكنّها محاولة للاستدراك قبل فوات الأوان. وهي موجّهة للجميع، للداخل كما للخارج، ولا سيّما أولئك الذين يراهنون على تغييرات جذرية قد تؤسّس لتغيير وجه لبنان انطلاقاً من الاستحقاق الانتخابي، وهذا خطأ فادح وخطيئة قاتلة. لأنّ الناس المتعبة والمرهقة والمنغمسة في توفير أبسط مقوّمات عيشها لن تتوثّب لإحداث أيّ تغيير منشود، ولأنّ الفقر والعوز والحرمان لا تصنع ثورة ولا تُغيّر واقعاً، بل تزيد من قتامة الواقع ومن استفحاله وتجذّره، خصوصاً في ظلّ انعدام الأفق ومحدوديّة الخيارات.
أهذه دعوة لتطيير الانتخابات؟ أظنّها كذلك. فأن تذهب البلاد برمّتها نحو فراغ وانهيار شامل، أهون من إعادة إنتاج واجترار الواقع نفسه، لأنّ الطبقة السياسية التي تتجاسر على الناس قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات بكلام من هذا النوع، لن تتوانى عن سحقهم بعد أن تُقفَل صناديق الاقتراع.
لتقلع أميركا عن أوهامها بزلزال شعبي وسياسي كبير. ولتقلع أوروبا عن استثماراتها العبثيّة بمؤسّسات المجتمع المدني، التي لن تُسمن ولن تُغني من جوع، بل ولن تُغيّر حرفاً واحداً من النتيجة التي صرنا نعرفها ونحفظها عن ظهر قلب. هذه البلاد لا يُمكن أن تتغيّر عبر الوسائل الديمقراطية التي يُتيحها دستور صار يشبه الممسحة، ولا عبر ثورة شعبية معدومة الأفق ومحدودة القدرة ومتراطمة الأهداف والغايات والمشارب. ومن يظنّ خلاف ذلك، فهو واهمٌ ومشتبه.
إمّا أن نذهب إلى قرار أممي يُحيّد لبنان بالقوة، ويؤسّس لنزع سلاح حزب الله بشتّى الطرق المتاحة، وإمّا أن نرضخ جميعاً للأمر الواقع. أمّا الانتخابات فهي للأسف لزوم ما لا يلزم.