هل بات في الإمكان الإدعاء على سلامة؟
الأخبار
السؤال لا يمكن أن يرد في السياق التقليدي لمعالجة الملفات القضائية. هناك شقّ إجرائي يتعلق بالتحقيقات القائمة لدى أكثر من جهة، وشقّ سياسي يتصل بمن يملك سلطة القرار في الادّعاء من عدمه. لكن الأهمّ هو الشق العملاني الذي تختلط فيه الاعتبارات المحلية والخارجية، وتندرج تحته قوى ومرجعيات دينية وسياسية وحزبية وحكومية ونيابية، إضافة إلى الموقف الأميركي الذي لا يزال يحكم عمل كثيرين في لبنان، وفي مقدّمهم من يقود القضاء اليوم. ولدى هؤلاء جواب واحد: رياض سلامة ثابتة أميركية غير قابلة للاهتزاز!
الجديد، بحسب ما علمت «الأخبار»، أن الملف القضائي بكل تفاصيله بات جاهزاً لدى النيابة العامة. وقد أبلغ القاضي غسان عويدات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وزملاء له في القضاء، بأن الملف اكتمل، وما ينقصه لا يمنع الادّعاء مباشرة على سلامة بتهمة اختلاس الأموال العامة وسوء استغلال السلطة.
ويشتمل الملف، بحسب المعطيات، على نتائج التحقيقات التي أجراها اكثر من قاضٍ، سواء ما قامت وتقوم به النائب العام في جبل لبنان القاضية غادة عون، أو الملف الأكثر تفصيلاً ودقّة الذي استُدعي القاضي جان طنوس من النيابة العامة المالية لمتابعته والإشراف عليه، ويتولّى متابعة تفاصيل الملاحقات والمتابعات القضائية الجارية خارج لبنان أيضاً. علماً أنه عرضة لـ«حصار» وعملية «تضييق» يستهدفان منعه من القيام بأمور من شأنها تعزيز ما لديه من معطيات.
لكن ما بين يدَي القاضي عويدات لا يحتاج إلى عناصر إضافية ليتم الادّعاء رسمياً على سلامة في لبنان. وفي حال تُرك طنوس يتابع تحقيقاته، خصوصاً مع المصارف التي تمنّعت عن تسليمه تفاصيل بعض الحسابات، سيكون الملف أكثر قوة وفيه من الأدلّة ما يسمح للقضاء في أوروبا بالإقدام على خطوات إجرائية تسهّل صدور أوامر بالحجز على ممتلكات سلامة ومنعه من التصرف بأموال مودَعة باسمه في حسابات مصرفية، وتفتح الباب أمام القضاء في لبنان وأوروبا لملاحقة «الشركاء المفترضين لسلامة» في أوروبا، من مصرفيين ومصارف ومؤسسات مالية.
أصل القصة
بحسب المعطيات، أخذ متابعو الملف القضائي لسلامة في الاعتبار الصلاحيات غير العادية التي يتمتّع بها الحاكم. فهو، إلى جانب كونه يتولّى منصبه منذ الأول من آب 1993، لم يحصل أن تجرّأت حكومة على عدم التجديد له منذ ذلك التاريخ. وإلى ما تنص عليه القوانين، يملك سلامة نفوذاً أسطورياً يجعله «الرقم الصعب» لدى كل المتعاقبين على السلطات التشريعية والتنفيذية والأمنية والقضائية والإعلامية، إضافة إلى كل من يتعامل في قضايا التجارة والصناعة والأسواق المالية. وهو يستند إلى القانون الذي يمنحه صلاحيات تجعله يتحكّم بكلّ شاردة وواردة في مصرف لبنان، من منصب الحاكم ونوابه إلى المجلس المركزي إلى الهيئات المتخصّصة القائمة أو التي استجدّت، ولا سيما هيئة التحقيق الخاصة. وهي الوحدة الأكثر خطورة نتيجة مهامّها التي تتيح لها الاطّلاع على كل ما تحتاج إليه من معطيات وتجاوز السرية المصرفية والتدقيق في الحسابات العائدة إلى أفراد أو شركات، وهي تتولى، عملياً، التنسيق مع المنظمات الدولية، خصوصاً مع الحكومة الأميركية التي لديها في لبنان عمل كبير تحت عنوان «مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال». سلطات سلامة تخوّله حتى منع كل هذه الهيئات والأطر، بما فيها المجلس المركزي، من الانعقاد في غيابه، كما يملك سلطة منح الامتيازات والعطاءات من خلال المصرف المركزي مباشرة، أو المؤسسات التابعة له من مصارف وكازينو وشركة الطيران الوطنية، إضافة إلى نفوذه الكبير على غالبية المصارف اللبنانية التي تولى دعمها، سواء من خلال برامج الدمج في تسعينيات القرن الماضي أو الهندسات المالية في العقد الماضي، عدا عن نظام الفوائد الذي أتاح تعاظم ودائع أفراد ومؤسسات من «علية القوم» سواء كانوا لبنانيين أو مستثمرين عرباً وأجانب.
لكنّ القوانين التي أعطت سلامة، مباشرة أو بطرق ملتوية، كل هذه الصلاحيات، منعت عليه القيام بأي عمل يمكن أن يُعدّ في إطار «تضارب المصالح». لذلك، فإن المواد الواردة في قانون النقد والتسليف (المادة 20 تحديداً) تمنع على الحاكم الإبقاء على أي مصالح أو أعمال له في أي شركة خاصة. وهو ما دفعه إلى البحث عن وسائل للالتفاف على القوانين من خلال شركاء له، هم في حقيقة الأمر، إما أفراد من عائلته أو مساعدون ومستشارون عملوا ويعملون لديه.
بعد تولّيه منصبه عام 1993، بادر سلامة إلى تعديل في محفظته المالية الخاصة، فعمد إلى سحب ما يقارب 15 مليون دولار من حسابات يملكها بقيمة تصل إلى 24 مليون دولار، ونقلها إلى حساب خاص بشقيقه رجا، واحتفظ ببقية المبلغ باسمه في حسابات في مصارف أوروبية عدة، محتفظاً بعلاقة «مكتومة» مع مؤسسة «ميريل لينش» التي كان يعمل فيها قبل تعيينه حاكماً من الرئيس الراحل رفيق الحريري.
وتبيّن لاحقاً أن الـ 15 مليون دولار التي نُقلت إلى اسم رجا، أُودعت في حسابات عدة في مصرف الموارد (يرأس مجلس إدارته المصرفي مروان خير الدين المقرّب من سلامة نفسه والمحسوب سياسياً على النائب طلال أرسلان). لكنّ محامياً متخصّصاً في الملف، قال لـ«الأخبار» إنه لا يوجد لدى المحققين ما يثبت رسمياً هذه المعلومات، رغم أن الحاكم نفسه كان أودع القضاء نسخاً عن كشوفات بهذه الحسابات. والمشكلة، هنا، تكمن في أن العملية الحسابية التي عمل عليها المحققون، أظهرت أن 15 مليون دولار زادت إلى نحو 150 مليوناً، وأن عملية الاستثمار فيه على مدى عشرين سنة، اشتملت على عمليات نقدية وليس عبر تحويلات مالية. ولا ينفي المحامي وجود عملية سحب لنحو 650 ألف دولار (بالليرة اللبنانية) قبل انتفاضة 17 تشرين 2019.
وبحسب المتابعين للتحقيقات، فإن مشكلة هذا الحساب تقف عند نتائج الاستجوابات التي جرت مع الحاكم نفسه. فهو أقرّ بأن شقيقه عاد وسلّمه المبالغ التي تم سحبها من مصرف الموارد، إلا أن التدقيق في ملفات تخصّ حساباً لرياض سلامة في مصرف لبنان لا يُثبت هذه الوقائع، ما دفع بالقضاء إلى التشكيك في إفادة الحاكم وتعزيز النظرية التي تقول إن هناك عملية جارية لتبييض الأموال. وتعزّزت هذه الوجهة مع شكوك بدور خاص لمصرف الموارد. ويجري الحديث هنا عن حماية خاصة وفّرها الحاكم للمصرف المذكور بمنع إحالته ملفاته إلى التدقيق والتحقيق بناءً على توصيات لجنة الرقابة على المصارف التي أفادت في تقرير لها بأن موجودات المصرف تقلّ بكثير عن مطلوباته.
لكن ما جعل السلطات القضائية على «قناعة بوجود شبهة قوية»، هو ما أكده لـ«الأخبار» مصدر بارز في مصرف لبنان، بأنه إلى ما قبل سنة تقريباً، لم تجب هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان على طلبات الجهات القضائية إيداعها نسخة عن كامل حسابات رياض سلامة، الذي رفض الكشف أيضاً عنها بحجة أنها تخضع للسرية المصرفية.
في هذا السياق، حاولت الجهات القضائية متابعة الملف الخاص برجا سلامة، فطلبت من خمسة مصارف على الأقل تزويدها بنسخ مصدَّقة تتعلق بحساباته لديها وحركتها خلال فترة زمنية معيّنة، بعدما قرّر القضاء «الاشتباه في رجاء سلامة بجرم الإثراء غير المشروع». لكنّ المصارف المعنيّة أصرّت على رفض التعاون حتى بعدما أرسل القضاء في طلب مدرائها لهذه الغاية، وسط خلاف بين النيابة العامة ومحامي هذه المصارف حول ما إذا كان بند السرية المصرفية ينطبق على هذه الحسابات في ظل هذا النوع من التحقيق وهذا النوع من الاشتباه (الإثراء غير المشروع)، وهو ما دفع بالقضاء إلى البحث في إجراء يقتضي تنفيذ المهمة بالقوة، الأمر الذي مُنع القاضي جان طنوس من تنفيذه قبل مدة بقرار من رئيسه القاضي غسان عويدات. وبرّر الأخير الأمر بأنه نتيجة طلب رسمي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي.