العبثيون يريدون “تطيير” الإنتخابات!
ثمّة سلوكيّات مشبوهة ومثيرة للريبة تمارسها أطراف وقوى سياسيّة لها باع طويل في التعطيل وشل المؤسسات وتشويه الدستور واستيلاد الأعراف ورفع الشعارات الإستهلاكيّة والشعبويّة الرخيصة في سبيل تحقيق مآربها ومصالحها الفئويّة الخاصة حتى ولو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنيّة العليا، لا بل هو دائماً كذلك لأن مصالحها تقف على طرف نقيض مع مصلحة المواطنين والبلاد عموماً.
إن الخطوات والأدبيّات التي يقوم بها ويعلنها التيار الوطني الحر تارة من خلال اللجوء إلى المجلس الدستوري في محاولة مكشوفة لتعطيل الاستحقاق الديمقراطي المنتظر أي الانتخابات النيابيّة التي تنطوي على أهميّة مفصليّة في هذه اللحظة الإستثنائيّة التي يمر بها لبنان، وطوراً من خلال توتير المناخات الداخليّة وتصعيدها بما يؤجج الصراعات السياسيّة ويفتح المجال أمام انتقالها إلى الشارع وبالتالي إنشاء الذرائع لتأجيل الإنتخابات المنتظرة.
ليست المرة الأولى التي يتنصّل فيها التيار من قانون إنتخاب كان له اليد الطولى لإقراره، ولا مغالاة في القول إن بدعة الصوت التفضيلي أدرجت في القانون «كرمى لعيون» أحدهم، وهو ذاته من عطل تأليف الحكومات في لبنان لمدة أشهر بهدف إشراكه، وذلك للإستفادة من طاقاته السياسيّة ورؤيته الثاقبة في معالجة القضايا الوطنيّة: الكهرباء نموذج ساطع عن بعض النجاحات التي سطّرها ذلك القابض على العهد وسيّده، فيما يشع إنجاز آخر في حياتنا الوطنيّة ألا وهو سلخ لبنان عن محيطه العربي وتدمير علاقاته التاريخيّة مع العرب والخروج من تلك الحاضنة التقليديّة.
المهم الآن أن هذه السلوكيّات المشبوهة توحي وكأن ثمّة جهوداً تُبذل في الغرف السوداء المغلقة لـ «تطيير» الانتخابات النيابيّة. إن هذه المحطة الإنتخابيّة الهامة ترتكز في أهميتها على أن من شأنها إعادة تحديد الأحجام والأدوار في المجلس النيابي الجديد وبالتالي تحديد الكثير من المسارات السياسيّة المستقبليّة في البلاد لا سيّما تلك المتصلة بالحفاظ على هويته ورسالته ودوره الذي لم يتوانَ التيّار إيّاه عن بيعها في سبيل الإبقاء على تحالفاته التي تتناقض مع هذا الخيار. وبالمناسبة، إذا وجد هذا الطرف أن إبقاء التحالف سيفيده إنتخابيّاً، سوف يجدّده، وإن وجد العكس، سيتخلى عنه.
ولكن ثمّة معركة قادمة توازي بأهميّتها ما ذكر أعلاه وهي تتصل بانتخابات رئاسة الجمهوريّة التي ستكون من أول الإستحقاقات التي ستواجه المجلس النيابي الجديد. صحيحٌ أن انتخاب الرئيس اللبناني كان دائماً وليد تسوية دوليّة – إقليميّة – محليّة ما، ولكن سلوك هذه التسوية دروبها الدستوريّة والمؤسساتيّة المطلوبة يتطلب توفر موازين قوى معيّنة داخل المجلس النيابي المنتخب.
من هنا، فإن احتمال المس بالمواعيد المحددة لإجراء الإنتخابات النيابيّة في أيّار المقبل، يبقى احتمالاً وارداً لدى تلك الأطراف السياسيّة التي تدور مجمل «فلسفتها» السياسيّة على العبثيّة والسلبيّة والكراهيّة. لقد توفر للعهد في بداية انطلاقته كل مقومات النجاح: دعم وازن من مكونات وكتل سياسيّة وطائفيّة متنوعة، وفترة «سماح» إمتدت لأكثر من عامين، واستقرار ما قبل الانهيار الإقتصادي والمالي والنقدي.
لقد بدد العهد كل فرص نجاحه، وأسقط كل فرص إنقاذ البلاد من الانهيار المحتوم الذي كانت بدأت تباشيره بالظهور منذ العام 2017 وكان من الممكن جداً القيام بالخطوات اللازمة لتفادي حصوله. لكن العهد بكّر في فتح معاركه الوهميّة مع كل الجهات المحليّة الفاعلة حتى تلك التي ساعدت في جلوس الرئيس على كرسي بعبدا. لقد كان خوض الحروب العبثيّة مع معظم المجتمع السياسي اللبناني دليلاً قاطعاً عالى قصور الأداء عن فهم طبيعة التركيبة اللبنانيّة المتنوعة. كم كان مكلفاً هذا القصور.