يعود الاحتفال بعيد القديس مارون إلى كنيسته في الجميزة، للمرة الأولى منذ انفجار الرابع من آب 2020. الكنيسة التي تضرّرت في الانفجار، تستقبل اليوم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، الذي يحتفل بالقداس بدلاً من راعي أبرشية بيروت للموارنة كما جرت العادة. يأتي الراعي إلى بيروت، للمرة الثانية بعد قداس الذكرى السنوية في المرفأ المدمر، فيما لا يزال أهالي ضحايا المرفأ يطالبون بالعدالة، وسط تراجع الاهتمام الإعلامي (إلا في المناسبات) بقضيتهم، والتجاذب السياسي المستمر حول القاضي طارق البيطار. فأي عظة يمكن أن يحملها الراعي معه إلى أهالي الضحايا، وهو الذي طرح إشكالية حين قام بمبادرة، بعد أحداث الطيونة، كان من ضمنها محاولة معالجة وضع البيطار، لكنها أجهضت في حينها. كلام الراعي يأتي في لحظة تقاطعات سياسية وقضائية كثيرة، ووسط مجموعة محطات تواكب عمل بكركي في هذه المرحلة:
أولاً، استبق الموفد الفاتيكاني بول غالاغر المناسبة الدينية بموعظة «حادّة» توجه بها إلى الإكليروس الماروني، فيما تتكشّف يومياً معطيات جديدة عن أهداف الزيارة الفاتيكانية وأبعادها. ورغم إعطاء الأولوية للشق السياسي منها وأهميته نظراً إلى بعض الطروحات غير المتوقعة التي تناولها غالاغر في لقاءاته، إلا أنه لا ينبغي التقليل من مستوى «الحنق» الفاتيكاني مما يدور في أروقة الكنيسة بالمعنى الواسع لا الضيق، خصوصاً في ظل معطيات مستجدّة حول أوضاع بعض أذرع الكنيسة، الصحية والتربوية، تقترب من حد الفضائح المستورة، ومعلومات عن فساد وهدر في مؤسسات محددة. وتأتي هذه المعطيات لتلقي ظلالاً من الشكوك حول المساعدات التي تتلقّاها بعض المؤسسات وتختفي بسحر ساحر، ما يجعل تلك المحتاجة فعلاً، والنظيفة الكف، تعاني من صعوبات ومن عدم تأمين موارد حقيقية لها لتقديم مساعداتها. وهذا يطرح أسئلة عن الشفافية في مقاربة أوضاع المستشفيات والمدارس، وهو تماماً ما يتحدث عنه الفاتيكان. علماً أن مساعدات خارجية تأتي إلى هذه المؤسسات من دول عدة، والمفارقة أن فرنسا أعلنت أخيراً، على لسان رئيسها إيمانويل ماكرون، «مضاعفة المبالغ المالية المرصودة لمساعدة المدارس المسيحية» (بينها 129 مدرسة تلقت مساعدة من فرنسا Oeuvre d›Orient)، ما يضع المؤسسات الكنسية تحت المعاينة المباشرة، وكذلك الكلام الصادر عن بكركي في كل ما يتعلق بالشأن الاجتماعي.
ثانياً، منذ أعلنت بكركي مبادرتها حول الحياد ومشروع تدويل الأزمة اللبنانية، والمراوحة السياسية تسيطر على مواقفها. صحيح أن لا هفوات كبيرة بالمعنى الحادّ، لكن ليس من الصعب مقاربة موقف بكركي وسط الإشكالات السياسية المتتالية. ففي ظل تقاطع حساس، إقليمي ودولي، وجدت بكركي نفسها على مفترق طرق بين محاولتها فتح خطوط تواصل مع الدول الخليجية والعربية، لا سيما تحت سقف خطاب البابا فرنسيس ولقاءاته الإقليمية، وبين مراعاة بعض الخصوصيات الداخلية.

لكن كان لافتاً، بالنسبة إلى سياسيين، أن بكركي لم تلاق الورقة الخليجية التي حملتها الكويت إلى لبنان، رغم أن جزءاً أساسياً منها يتقاطع مع طروحاتها. وقد تكون هذه من المفارقات، إذ لم يتلقّف البطريرك الذي فتح أقنية مع دول عربية الموقف الخليجي، وإن حاول في بيان مجلس المطارنة الموارنة الإشارة إلى «وضع حد نهائي للتدخلات في شؤون الأصدقاء والأشقاء»، ما يجعل موقف بكركي السياسي، محلياً وإقليمياً، متأرجحاً. وهي التي تقف مع الاستحقاقات الانتخابية وتطرح الصوت من أجل حصولها، لن تكون بمنأى عن حسم خياراتها المحلية في حال سلك الكلام عن التمديد للمجلس النيابي مسلكاً متوقعاً.
ثالثاً، في حين يصر مجلس المطارنة في شكل دائم على التذكير بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد والقيام بالإصلاحات الضرورية، يمكن التوقف عند استمرار بكركي في الدفاع عن المصارف وعن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بذريعة عدم استفراده من دون غيره. وبغضّ النظر عن أي خطوات قضائية ترسم حولها علامة استفهام، يواصل الراعي منذ أكثر من سنتين الدفاع عن سلامة رغم كل ما يسجل في شكل يومي من إجراءات مصرفية ساهمت في تعميق الأزمة الاجتماعية، علماً أن الموفد الفاتيكاني كان حريصاً على التذكير بتنامي الفقر وبأن «عائلات تجد نفسها عاجزة عن النفاذ إلى حساباتها المصرفية». وهذا يعيد طرح الأسئلة عن خلفية كل خطاب بكركي حول سلامة والقطاع المصرفي الذي يزداد شراسة في إفقار الناس. ورغم أهمية الخطاب السياسي والطروحات الوطنية التي يحاول الراعي إظهارها عند كل مناسبة دينية كعيد القديس مارون، أعاد الفاتيكان رسم خريطة اجتماعية اقتصادية ملحّة وضعها أمام بكركي التي لا تزال متريّثة في سلوك مسلك جريء وواضح، وطرح خطاب يشبه على الأقل ما قالته بكركي من دون قفازات للرئيس الراحل رفيق الحريري حين اعترضت على مشروعه الاقتصادي والمالي، بغضّ النظر عن الهوية الطائفية للقائمين به.