لا يزال موقف لبنان الرسمي غير واضح بشأن خط الترسيم البحري الذي سيتبنّاه كخط نهائي لحدوده في المنطقة الإقتصادية الخالصة، ولا ماذا سيكون عليه ردّه الرسمي على مقترحات الوسيط الأميركي في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية خلال زيارته الثانية للبنان التي بدأها أمس الثلاثاء وتستمرّ يومين. كما في حال طرحت عليه العودة الى طاولة الناقورة، في حال وجدت الأطراف الثلاثة المعنية أنّ الوقت قد حان للعودة إليها. فبين استكمال المفاوضات وفق «اتفاق الإطار» الذي أرسته المحادثات التي قادها رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي على مدى 10 سنوات، والرسالة الأخيرة التي أرسلتها الحكومة اللبنانية الى الأمم المتحدة استباقاً لزيارة هوكشتاين، وردّاً على الرسالة «الإسرائيلية» التي «هدّدت» لبنان بمنعه من افتتاح دورة التراخيص الثانية للتنقيب على النفط والغاز في منطقته البحرية، وبالتالي بدء الشركات الدولية أعمال التنقيب فيها كون لديها حقوق سيادية فيها، على ما ادّعت، ينتظر الجميع مقترحات الوسيط الأميركي الجديدة، وما سيُحصّله لبنان من تفاوض غير مباشر مع العدو يتوسّطه خبير في شؤون الطاقة، وحليف للعدو الإسرائيلي.
أوساط ديبلوماسية متابعة لملف ترسيم الحدود البحرية والبريّة، تُصرّ على أنّه على لبنان توحيد موقفه الرسمي من مسألة ترسيم الحدود البحرية، وعليه تحديد ما اذا كان يتبنّى الخط 23 كحدود منطقته الإقتصادية الخالصة، فيتخلّى بذلك عن جزء من «حقل قانا» الذي يقع خارجه، وعن «حقل كاريش» بكامله، أم يتمسّك بالخط 29 المدعّم بالحجج القانونية والذي فاوض على أساسه الوفد العسكري التقني باسم لبنان على طاولة المفاوضات خلال الجولات الماضية، رغم عدم تعديل المرسوم 6433 لتثبيت هذا الخط وتدعيم موقف الوفد المفاوض، فيربح بذلك «قانا» بكامله ونصف «حقل كاريش» الذي يدخل ضمن الخط 29…
وأوضحت الاوساط أنّ الرسالة التي أرسلتها الحكومة اللبنانية الى الأمم المتحدة الأسبوع الفائت، لم تذكر جهارةً تبنّي لبنان للخط 29، بل ذكرت أنّ «حقل كاريش» يقع ضمن المنطقة المتنازع عليها، في محاولة منها للفت أنظار المجتمع الدولي، إذ جرى توزيع هذه الرسالة على الدول الأعضاء في مجلس الأمن، الى أنّ المنطقة المتنازع عليها باتت بين الخطّين 23 و29. علماً بأنّ العدو الإسرائيلي لا يزال يعتبر أنّها تقع بين النقطتين 1 و23، ما يجعل أعماله في «حقل كاريش»، من وجهة نظره، تقع خارجها. فيما شملت الرسالة مواربة الخط 29، كما اشترطت التقدّم في المفاوضات مع الأميركيين و»الإسرائيليين» لتعديل المرسوم 6433. ما يعني أنّ الحكومة تريد إمّا الإحتفاظ بالتعديل كورقة رابحة لتستخدمها لاحقاً، في حال تأكّدت أنّ الأميركيين و»الإسرائيليين» يودّون فعلاً العودة الى طاولة الناقورة من دون أي شروط مسبقة، ومن دون أي تزمّت أو تمسّك بما لا يحقّ للعدو قانوناً، أو أنّها تُحاول إبداء ليونة ما بهدف إنجاح مهمة هوكشتاين، إذ من مصلحتها العودة الى المفاوضات وبدء لبنان الاستفادة من موارد ثروته النفطية، ولو بعد سنوات، إذ من شأن هذه الأخيرة أن تجعله يستغني عن مساعدات الدول المانحة أو الإتفاق مع صندوق النقد الدولي أو سواها من الإتفاقيات الدولية.
وأشارت الأوساط نفسها الى أنّ جزءا من «حقل قانا» مشترك، وتتفاوت مساحة هذا الجزء بحسب تحديد المنطقة المتنازع عليها، أكانت بين الخطين 1 و23، أو بين الخطّين 23 و29، غير أنّ أطرافا لبنانية ترفض هذا الأمر وتجد الاوساط أنّ «حقل قانا» هو بكامله من ضمن حقوق لبنان السيادية، وإذا حصل عليه لبنان بكامله يكون قد خرج عن الخط 23، في الوقت الذي يريد العدو الإسرائيلي الإستيلاء على قسم من «قانا» يقع ضمن الخط 1. وتجدر الإشارة الى أنّه بشكل عام، خلال المفاوضات ، عندما يضع طرف ما خطّاً حدودياً، حتى وإن كان يعتبره الخط النهائي لحدوده، غير أنّ موافقته على التفاوض لا بدّ وأن تعني أنّه عرّض نفسه لأن يأخذ ويُعطي، لا أن يأخذ منطقة النزاع بكاملها، ولا أن يعطيها بكاملها للطرف الآخر.
وهنا تكمن المعضلة التي على هوكشتاين إيجاد حلّ سريع لها، على ما سبق وأن أعلن قبل آذار المقبل وإلّا سينسحب من هذه المهمّة، ومن ثمّ طرحه على لبنان و»اسرلئيل»، وانتزاع موافقتهما عليه، على ما شدّدت الاوساط، أي أن يقوم بتحديد خطي المنطقة المتنازع عليها أولاً، قبل مناقشة تقسيم هذه الأخيرة، أكان بخط متعرّج، أو مستقيم، أو من خلال تقاسم واردات الحقول المشتركة بين لبنان والعدو عبر شركة أميركية أو سوى ذلك.
وتقول الاوساط انّ الذين سبقوا هوكشتاين، من وسطاء أميركيين من ديفيد ساترفيلد الى ديفيد شينكر وجون ديروشيه وسواهم، عانوا كثيراً في التوصّل الى اتفاق حول هذا الخط. كما سبق وأن عانى السفير فريديرك هوف قبلهم أيضاً في رحلة الوساطة بين الجانبين بين عامي 2010 و2012 وصولاً الى ما يُعرف بـ «خط هوف»، الذي اقترحه في نهاية مهمّته، وتمّ رفضه. فلبنان يعتبر المنطقة المتنازع عليها (بمساحة 882 كلم2، على ما حدّدها هوف) هي بكاملها من حقّه، والعدو الإسرائيلي رفضها كذلك من خلال قول سفيره «لسنا معتادين تسوية نحصل بموجبها على 45 % فقط من أي شيء». ولهذا فإنّ هوكشتاين الذي على عِلم بتفاصيل طروحات هؤلاء الوسطاء في السنوات السابقة، يدرس اليوم طرح مقترحات عملية تسووية تستفيد منها الأطراف الثلاثة، أي بما فيها بلاده وشركات النفط الأميركية، بعيداً عن رسم الخطوط فوق البحر أو تحته.
وبرأي الاوساط، أنّ هوكشتاين تخطّى «خط هوف» الذي سقط منذ سنوات، غير أنّ العقدة التي لا يزال يُواجهها هي مطالبة لبنان بمنطقة النزاع بمساحة 860 كلم2 بكاملها، فضلاً عن نيّته بتخطّيها وصولاً الى الخط 29. علماً بأنّه في مطلق الأحوال، إنّ أي مساحة يحصل عليها العدو الإسرائيلي في هذه المنطقة، خلال التفاوض غير المباشر، ليست من حقوقه السيادية، على ما يدّعي، كونه بالدرجة الأولى محتّلاً للأراضي الفلسطينية ويستفيد من ثرواتها البحرية والبريّة، ولأنّ الخط 1 الذي رسّمه في المنطقة المتنازع عليها غير قانوني، بل إستيلائي وكثير الطموح كونه يتخطّى الكثير من حقوق الأراضي الفلسطينية في عرض البحر، غير أنّه رسمه كحدّ أقصى خلال المفاوضات للحصول على كامل «حقل كاريش» وجزء من «حقل قانا»، ثم عاد وأضاف الخط 310 الوهمي على طاولة المفاوضات الذي يصل الى عمق الداخل اللبناني، لكي يحصل في نهاية المناقشات على الخط 1.
وتساءلت الأوساط ذاتها عن جهوزية لبنان للعودة الى طاولة المفاوضات، في حال لمس الوسيط الأميركي اليوم أنّ الأمور نضجت، ولا بدّ من العودة الى الطاولة. فهل الوفد اللبناني العسكري، الذي كان يرأسه العميد الركن الطيّار بسّام ياسين الذي أظهر مهارة وصلابة في التفاوض غير المباشر من خلال تمسّكه بالخط 29 الأكثر قانونية بين سائر الخطوط المطروحة، جاهز للتفاوض، وهل سيبقى نفسه بكامل أعضائه بعد الحديث عن استبدال العميد ياسين بعد أن أن أحيل الى التقاعد؟ وماذا عن أعضاء الوفد الآخرين الذين ساندوه في مهمته خلال الجولات التفاوضية الماضية، أي كلّ من العقيد الركن البحري مازن بصبوص، وعضو هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان وسام شباط، والخبير نجيب مسيحي؟! وهل على لبنان الإنتظار وقتاً طويلاً بعد للعودة الى الطاولة؟ الأمور ستبقى معلّقة الى أن تتسهّل في الأقليم لكي تتسهّل قضية الترسيم البحري، وخصوصاً أنّ الملف موضوع على طاولة محادثات فيينا، وأن تليين موقف الطرف الإيراني خلالها لا بدّ وأن ينعكس إيجاباً على طاولة الناقورة؟!