من مارشال إلى ترومان: “إسرائيل” تشكل خطراً على أمن واشنطن

تأتي انتخابات الكونغرس النصفية هذا العام محملة بالتحديات التي قد ترفع حجم الانقسام بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي إلى مستوى يرقى بالخلاف حتى يصل إلى الأمور التي كانت منذ زمن من المسلمات وضمن عقيدة الولايات المتحدة كـ “ضرورة الاستمرار بدعم إسرائيل للحفاظ على وجودها” من عدمه. هذا الخلاف الذي وجد طريقه منذ عقود مضت إلى أروقة البيت الأبيض أصبح اليوم، خاصة بعد استراتيجية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب القائمة على “الجموح” في دعم المشاريع الإسرائيلية وهو ما وضع “الأمن الإقليمي” الأميركي في خطر، الأمر الذي سيؤثر مباشرة على حياة الجنود الأميركيين، بالدرجة الأولى، كاستهداف إيران لقاعدة عين الأسد في العراق بعيد اغتيال القائدين اللواء قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس والذي طبخته “إسرائيل” وقدمته لترامب ليتجرعه.

حان الوقت لإنهاء العلاقة الخاصة مع “إسرائيل”

بعد أسبوع واحد على وقف إطلاق النار بين قطاع غزة وقوات الاحتلال في فلسطين، أي بعد انتهاء معركة سيف القدس، كتب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد والت ستيف مقالاً بعنوان “حان الوقت لإنهاء العلاقة الخاصة مع إسرائيل لم تعد فوائد الدعم الأميركي تفوق التكاليف” في 27 أيار/ مايو 2021. معتبراً ان “الولايات المتحدة قد قامت بالمبالغة جداً في إعطاء قيمة لتل أبيب…الدعم بشكل غير مشروط لإسرائيل أصبح اليوم يولد مشاكل للولايات المتحدة أكثر مما يؤمّن الحلول”. مؤكداً ان “تكاليف هذه العلاقة -بين واشنطن وتل أبيب- مستمرة بالارتفاع”.

ويتابع الكاتب ان “بايدن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان مشاكل أكبر مما يدعو للقلق من تصرفات دولة شرق أوسطية صغيرة. ومع ذلك تتورط واشنطن في أزمة تتطلب اهتماماً كبيراً ووقتاً ثميناً يأخذ من هامش التعامل مع تغير المناخ والصين والجائحة والانسحاب من أفغانستان والانتعاش الاقتصادي والكثير من المشاكل الأكثر ثقلاً”.

هذا “الجلد الذاتي” الذي بدأ يتزايد مع تزايد الفاتورة التي باتت تدفعها واشنطن خاصة في الشرق الأوسط نتيجة دعمها المفرط لـ “إسرائيل” إضافة لملف كامل من خياراتها الخاطئة انطلاقاً من غزوها لأفغانستان وصولاً إلى العراق وما تبعها في كل من ليبيا وسوريا وايران حتى تجاه الصين وروسيا، هناك من تنبّأ به منذ أكثر من 72 عاماً.

مارشال: دعم “إسرائيل” سيؤثر على أمن واشنطن أولاً

عام 1948، -عام نكبة فلسطين- وتحديداً في 12 من شهر أيار/مايو، اجتمع كل من الرئيس الأميركي هاري تومان ومستشاره السياسي كلارك كليفورد، ووزير الخارجية جورج مارشال في المكتب البيضاوي الذي يقع في الجناح الغربي في البيت الأبيض، بغية إيجاد الذرائع “على ضرورة الاعتراف بدولة إسرائيل” لتقديمها للرأي العام الأمريكي والعالمي.

وقتها، أراد ترومان من دعوة مارشال مساعدة الأخير له -بذكائه المعتاد الذي سهل غزو أوروبا عندما كان رئيس أركان الجيش- لكن آمال ترومان لم تتحقق. فـ “أعظم أميركي على قيد الحياة” كما يصفه، لم يكن يؤمن بقيام هذه “الدولة” بل وكان يرى هذه الخطوة أنها لا تخدم مصالح واشنطن بل العكس.

وفق الوثائق التي نشرت فيما بعد انه عقب الاجتماع الذي انتهى بسجال حاد ما بين ترومان ومارشال، قال الأخير في تصريح له بعد الجلسة “اليهود كتلة تصويتية مهمة وسوف يؤيدون القرار… ترومان يفضّل أسهمه الانتخابية على ما هو أفضل لمستقبل الولايات المتحدة… إذا كنت سأصوت خلال الانتخابات القادمة، فسأصوت ضد الرئيس”.

لم يكن هذا التصريح المدوٍّ لمارشال يتيماً، ففي الفترة الفاصلة بين الحرب العالمية الثانية وهذا الاجتماع، قامت هيئة الأركان المشتركة بإصدار حوالي 16 ورقة، أكدت فيها ان “الاستراتيجية الصهيونية ستستعى بشكل مستمر لإشراك واشنطن في سلسلة تتعمق وتتسع باستمرار بعمليات تهدف لتأمين أقصى قدر من الأهداف اليهودية”.

هذه الوثائق كشفت أيضاً ان مارشال كان قد حذّر ترومان من قيامه بالاعتراف “بدولة إسرائيل” خلال مجموعة من الرسائل كانت تصل إلى مكتبه موسومة بعبارة “سري للغاية”، والتي شرح فيها حجم هواجسه من القيام بهذه الخطوة “السابقة لأوانها” لأن ذلك سيقوم بتأجيج العالم العربي، وواشنطن ستواجه صعوبات متزايدة… نعتقد انه من الأنسب خدمة لمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل حجب الاعتراف القانوني”. فيما تركزت المواقف التي شدد عليها مارشال على عدة اعتبارات أهمها:

-دعم “دولة إقليمية إسرائيلية” في منطقة الشرق الأوسط سيؤثر على مصالح وأمن الولايات المتحدة.

-مصلحة اليهود أيضاً حجب الاعتراف القانوني “بإسرائيل”

-الاعتراف بدولة يهودية سوف يؤجج العالم العربي

– الاعتراف بها سوف يؤدي إلى مشاكل مهمة أمام الرأي العام.

أصبحت رؤية مارشال هذه، بشأن عدم الاعتراف بإسرائيل، “عقيدة” بات يستسيغها الكثيرون ممن باتوا يرون بسلوك تل أبيب الهمجي غير المدروس والافراط الأميركي في دعمها أمراً غير المبرر ويؤثر على أمن واشنطن بشكل مباشر. كالقائد السابق للقيادة المركزية الأميركية الجنرال جو هاور الذي وصف مارشال بـ “صاحب البصيرة”.

عام 2010، بعيد زيارة نائب الرئيس باراك أوباما -جو بايدن الرئيس الحالي- إلى كيان الاحتلال، قامت مجموعة مؤلفة من ضباط القيادة المركزية مع مسؤولين عن الأمن الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، بتقديم تقرير امام البنتاغون جاء فيه “ان العرب باتوا يؤمنون أن واشنطن لا تستطيع ردع إسرائيل، والتعنت الإسرائيلي بدأ يشل دور الولايات المتحدة في المنطقة… ان موقعها العسكري -رغم وجود مئات الآلاف من الجنود في المنطقة- يتلاشى”. وهذا ما شكل صدمة كانت بمثابة قنبلة هائلة انفجرت في البيت الأبيض.

كانت الخطوة الأميركية الأولى بعد هذا العرض الذي قدمه فريق أرسله رئيس هيئة الأركان الجنرال ديفيد بترايوس هي نقل بايدن رسالة شديدة اللهجة إلى نتنياهو “لقد أصبح هذا الأمر خطيراً جداً بالنسبة إلينا. إن ما تقوم بفعله هنا يهدد أمن قواتنا المقاتلة في العراق وباكستان وأفغانستان، وهذا يعرض الأمن الإقليمي للخطر… التعنت الإسرائيلي يكلفنا حياة جنود أميركيين”. كانت رسالة بترايوس واضحة “إن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل مهمة، لكنها ليست في أهمية حياة الجنود الأميركيين”.


الكاتب: الخنادق

 

Exit mobile version