لن توفّر الولايات المتحدة وسيلة لإسباغ معانٍ إيديولوجية و»قِيَمية» و»أخلاقية»، على مساعيها للتصدّي لصعود الصين، كمنافِس استراتيجي حسب تصنيفها، على النطاق العالمي. هي فعلت ذلك خلال قمّتها الافتراضية البائسة حول الديموقراطية، والتي نظّمتها بمشاركة 111 دولة في شهر كانون الأول الماضي، للتحذير من خطر «القوى الشمولية»، أي الصين بالدرجة الأولى، وروسيا وإيران بالدرجة الثانية، على «الحرية» و»حقوق الإنسان»، وعلى النظام الليبرالي الدولي، وفشلت بوضوح في خلق حالة التعبئة المرجوّة، حتى في أوساط الرأي العام الأميركي والغربي، في مقابل هذا «الخطر».
لكنّها عاودت الكَرّة، مع محاولتها إطلاق حملة عالمية لمقاطعة الألعاب الأولمبية الشتوية التي ستُفتتح في بكين، في الرابع من شباط الحالي، بحجّة انتهاك الصين لحقوق الإنسان واضطهادها أقلية الإيغور المسلمة، من دون أن يحالفها الحظّ مرّة أخرى. فنظرة سريعة على لائحة الدول المشاركة، بما فيها تلك «الإسلامية» المتحالِفة تقليدياً مع واشنطن، تؤكّد هذا الأمر. افتَرض صنّاع القرار في واشنطن أن بإمكانهم تكرار الحملة التي قادوها لمقاطعة ألعاب موسكو الأولمبية، في عام 1980، بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان، والتي تكلّلت بالنجاح، ولكن في سياق دولي مختلِف جذرياً.
وإن كانت لائحة الدول المقاطعة للألعاب الأولمبية آنذاك تؤشّر، من بين عوامل أخرى عديدة، إلى اتّساع الجبهة التي تتزعّمها الولايات المتحدة ضدّ الاتحاد السوفياتي، فإن لائحة المقاطعين الحاليين لألعاب بكّين تُظهر تراجع قدرتها على إلزام حلفائها بسياساتها، وما يعنيه ذلك من ضمور في نفوذها، ومن قدرة لمنافسها الصيني، من جهته، على نسج شبكة مصالح وازنة، متحرّرة من الاعتبارات الإيديولوجية، مع قسم عظيم من بلدان العالم، يجعل من مهمّة احتوائه ووقف صعوده، ضرباً من ضروب المستحيل.

سلاح الإيديولوجيا الصدئ
بضعةَ أيّام قبل انطلاق الألعاب الأولمبية في بكين، لم يتردّد جورج سوروس، الملياردير «الليبرالي»، الذي أنشأ «مؤسّسات المجتمع المفتوح»، ومهندس الثورات الملوّنة المفضّل لدى الإدارات الأميركية الديموقراطية، في مقارنتها بتلك التي تمّت في ألمانيا النازية، في عام 1936، في خطابٍ ألقاه في مؤسّسة «هوفر»، واصفاً الصين بأنها «الدولة الاستبدادية الأقوى في العالم، والتهديد الأكبر الذي تواجهه المجتمعات المفتوحة اليوم». هذه المقارنة بـ»الشرّ المطلق» النازي، تندرج في إطار الحملة الهوجاء التي تشنّها أجهزة دعاية الإمبراطورية لإثارة استقطاب إيديولوجي حادّ، مستلَهم من ذلك الذي ساد أثناء الحرب الباردة.
ربّما يفسّر الحنين الماضَوي إلى زمن العظمة، عندما كانت واشنطن تقف على رأس ائتلاف عريض جدّاً من الأنظمة والقِوى والأحزاب السياسية، المذعورة من تعاظم دور تنظيمات اليسار وحركات التحرّر الوطني المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي، هذا الميل إلى تكرار خطاب منتهي الصلاحية في وضع دولي جديد. فبنظر غالبية اللاعبين السياسيين الفاعلين، بِمَن فيهم أعداؤها، الصين ليست الاتحاد السوفياتي. هي لا تقود معسكراً يهدف إلى قلْب أنظمة الحُكم القائمة في جنوب العالم وشمالها، واستبدال أخرى اشتراكية بها، بل هي تكتفي بنظامها «الاشتراكي ذي الخصائص الصينية» في داخل حدودها. أمّا في علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع العالم الخارجي، فتُتقن قواعد اللعبة التي وضعها آباء «النظام الليبرالي الدولي»، إلى حدّ تفوّقها على الأساتذة كما يقول المثَل.

تعامَلت بكّين مع العالم باعتباره سوقاً أولاً، كما أراد أرباب النظام العتيد، وباتت من أهمّ أقطابه، وشريكاً رئيساً للأقطاب الآخرين ولبقية بلدان المعمورة. ميزة تفاضلية إضافية تتمتّع بها الصين بالنسبة إلى دول الجنوب، وهي عدم اعتمادها سياسة «الابتزاز الديموقراطي» وما يصاحبها من رياء حول حقوق الإنسان، لحمْل هذه الدول على تقديم تنازلات تمسّ سيادتها. الالتزام بمبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، حتى الآن على الأقلّ، هو من بين أسباب النجاح الصيني على صعيد العلاقات الخارجية، وما يُفشل المحاولات الأميركية لأبلستها.
لم تحظَ حملة واشنطن للمقاطعة الدبلوماسية لألعاب بكين الأولمبية، أي عدم مشاركة مسؤولين رسميين في حفل افتتاحها، سوى بتأييد 8 دول: بريطانيا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا وليتوانيا والدنمارك وهولاندا واليابان. أمّا الدول الـ91 المشاركة، فسيُمثّل بعضها على أعلى مستوى في الحفل الافتتاحي، كالرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين، والمصري عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس البولندي أندريه دودا، ونظيره الصربي ألكسندر فوتشيتش، وأمير موناكو ألبير الثاني، إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، والمدير العام لـ»منظّمة الصحة العالمية» تيدروس أدهانوم غيبريسوس. يكفي حساب عدد الدول المشاركة في الأولمبياد، وكونها تضمّ حلفاء تقليديين للولايات المتحدة، وعدد تلك المقاطعة، على رغم مساعي الأولى للحضّ عليها، للاستنتاج بأن واشنطن مُنيت بهزيمة سياسية – دبلوماسية ورمزية، وبأن ضمور نفوذها يتسارع بالتوازي مع تعزيز الصين لموقعها الدولي ولشراكاتها المتنوّعة مع بلدانه.

السينكيانغ لن تكون أفغانستان
تبنّت إدارة جو بايدن الاتّهامات التي وَجّهها مايك بومبيو، عندما كان وزيراً للخارجية، إلى الصين، بممارسة الإبادة بحق أقلّية الإيغور المسلمة. تصوَّر فريق ترامب، ومِن بَعده فريق بايدن، أن باستطاعته تحويل ما يجري في السينكيانغ إلى قضية شبيهة بقضية أفغانستان، عند غزوها من قِبَل السوفيات، وشحن الدول الإسلامية وشعوبها ضدّ الصين هذه المرة. فات صنّاعَ القرار في واشنطن أن ما حكم مواقف دول كباكستان والسعودية ومصر، للمثال لا للحصر، من قضية أفغانستان، ليس مبدأ التضامن مع شعب مسلم شقيق، بل العداء للسوفيات بسبب تحالفهم مع خصوم تلك الدول من أنظمة وحركات قومية أو يسارية. أمّا اليوم، فلا وجود لمثل هذه الاعتبارات في علاقة الأنظمة المُشار إليها بالصين، والتي تعاظمت على المستويات الاقتصادية والتجارية، وحتى العسكرية، في السنوات الأخيرة.
وبما أن حلفاء واشنطن يدركون تراجع قوّتها وقدرتها، واتّجاهها للتخفّف من التزاماتها في الشرق الأوسط لمصلحة التركيز على مواجهتها مع الصين، فإنهم يقومون بتنويع شراكاتهم، عبر تطوير تعاونهم مع هذه الأخيرة، ومع روسيا ودول أوروبية والهند. قرار هؤلاء بالمشاركة في أولمبياد بكين بذاته، مؤشّر إضافي إلى التحوّلات المستمرة في موازين القوى الدولية لغير مصلحة الولايات المتحدة.