الاقتصاد السياسي للبنان يتفكّك. هذه أبرز خلاصة وردت في نشرة المرصد الاقتصادي الصادرة عن البنك الدولي بعنوان «الإنكار الكبير». هو إنكار كبير لأن الأزمة استمرّت بعد سنتين من انفجارها وفق تقدير أن الانهيار حصل في تشرين الأول 2019. خلال فترة السنتين استمرّ الانحدار. لم يعمل أحد على إيقافه. بل كانت الاضطرابات النقدية والمالية تخلق ظروفاً إضافية للأزمة من خلال ثلاثة عوامل أساسية: تدهور سعر الليرة، خلق الأموال، والتضخّم. دينامية العوامل الثلاثة أصبحت مركز الأزمة يتمحور حولها استشراف المستقبل. فعمليات تحويل الودائع إلى ليرة وخلق الأموال النقدية وضخّها في السوق، ستكون لها تداعيات تضخّمية. لذا، يشير البنك الدولي إلى أنه «في عام 2021 عانت الليرة اللبنانية من تدهور بنسبة 210% مقابل سعر الدولار النقدي في السوق، علماً بأن نسبة التدهور كانت تبلغ 250% في 2020»، وأن التضخّم «ازداد سوءاً».
إذاً، هل قضي الأمر ووصلنا إلى قعر الأزمة؟ لم يقدّم البنك الدولي إجابة مباشرة على سؤال من هذا النوع، لكنه أجرى تقييماً لمخاطر الأزمة وتوقعاته المستقبلية، خلص فيها إلى «تفكّك الاقتصاد السياسي للبنان».

بالأرقام

33.1 مليار دولار
هي الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي خلال ثلاث سنوات. ففي عام 2018 كان الناتج الاقتصادي للبنان يبلغ 54.9 مليار دولار ثم انخفض وفق تقديرات البنك الدولي إلى 21.8 مليار دولار في 2021

183%
هي نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2021 مقارنة مع 154.9% عام 2018

39.6 مليار دولار
هي قيمة انكماش الدين العام في لبنان وقد تحمّلها المجتمع والاقتصاد على شكل تضخّم في الأسعار وانهيار في القدرة الشرائية وفقر وهجرة. وبحسب البنك الدولي كان دين لبنان بلغ 88.9 مليار دولار في 2018، وانخفض إلى 39.9 مليار دولار في 2021

وفق تقديراته، فإن إفلاساً بهذا المستوى قوّض الاقتصاد السياسي لما بعد الحرب الأهلية. هذا النموذج كان قائماً على «تدفق الودائع لتمويل القلّة الحاكمة في القطاع الخاص والعام والتي كانت تسيطر على الإدارة العامة». ورغم أن النموذج حصل على فرص عديدة للإنقاذ من المجتمع الدولي مقابل وعود بالإصلاح، من باريس 3 إلى سيدر وسواهما، فإن نهايته جاءت على شكل توقف مفاجئ في تشرين الأول 2019. ويشير البنك الدولي إلى أنه «في الوقت الذي تحمّلت فيه الطبقتان الفقيرة والوسطى وزر انهيار هذا النموذج الذي لم يكن يوماً في خدمتهما، فقد تمكّنت النخب السياسية والاجتماعية (الطبقة الثريّة) من الهروب من انعكاسات الانهيار عبر الاستقالة أو الهجرة، علماً بأن هذه الطبقة الأخيرة كانت أكبر المستفيدين منه».
المشكلة لا تقف عند هذا الحدّ، بل إن التمادي في إنكار وجود الأزمة هو أزمة بحدّ ذاته. هذا الإنكار الكبير، كما يصفه البنك الدولي، يتعلق بمواقع القرار. فهو يشير إلى أن «القوى الفاعلة في القطاع العام، وفي بعض القطاعات الخاصة، تواصل ممانعتها للاعتراف بالخسائر، ما يجعل الاقتصاد في حالة زومبي ويخلق أضراراً اجتماعية كان يمكن تفاديها. وحتى بعد مرور عامين على الأزمة المالية لم يحدّد لبنان مساراً اقتصادياً للتعافي. في النتيجة، ما زالت العمالة الماهرة تسعى لفرص أفضل في الخارج، ما يشكّل خسارة اجتماعية واقتصادية».
إذاً، الخسائر لا تتعلق فقط بما حصل في القطاع المالي الذي تتداخل فيه الحكومة بمصرف لبنان بالمصارف بالمودعين، إنما هناك خسائر المجتمع التي يزداد حجمها يومياً من دون أي مكابح. ما لم يقله البنك الدولي أن المسؤولين في الحكومة يتعاملون مع الأزمة بوصفها حدثاً عادياً يمكن علاجه بالوصفات العادية لإعادة إحياء النموذج على حساب المجتمع، لكنهم في سياق قيامهم بذلك، يفكّكون النظام بكامله. الحفاظ على أنفسهم باعتبارهم ما يسمّيه البنك الدولي «نخباً حاكمة» هو المصدر الأساس لتفكّك نموذج الاقتصاد السياسي الذي عرفه لبنان بعد الحرب الأهلية. والمسألة هنا لا تتعلق برئيس حكومة أو وزير مال أو سواهما، بل بمواقع الزعامة السياسية التقليدية التي ما زالت تحمي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في سبيل قيامه بتفكيك النظام لخدمة بقائها.
ومنذ تقريره الأخير بعنوان «لبنان يغرق»، فإن تقديرات البنك الدولي ما زالت على حالها وتفيد بأن مصرف لبنان هو صانع السياسات الوحيد في لبنان حالياً، وأن سياساته هي الأساس في كل النتائج التي يشهدها لبنان. لذا، يقدّر البنك الدولي أن «يبقى الاضطراب المالي والنقدي قائماً»، فالعوامل الثلاثة التي تقود السوق، أي سعر صرف الليرة مقابل الدولار، الكتلة النقدية، وتضخّم الأسعار، تتحرّك وفق سياسات مصرف لبنان المركزي»، ولا سيما العامل المتعلق بالكتلة النقدية الذي بموجبه يتم تسييل العجز المالي وتحويل الودائع إلى الليرة.
ويشير التقرير إلى أن تحويل الودائع إلى ليرة بدأ بتعاميم مصرف لبنان التي سمحت للمودعين بالدولار أن يسحبوا أموالهم على أسعار صرف أعلى من السعر الرسمي، وأقل من سعر السوق الموازية.

كانت البداية مع التعميم 151 الذي أتاح سحب كل دولار بقيمة 3900 ليرة ضمن سقف سحب يبلغ 5000 دولار شهرياً. «هذا الأمر يعني هيركات بنسبة 84%، على افتراض أن سعر صرف الدولار في السوق يبلغ 25000 ليرة» وفق البنك الدولي. لكن «المركزي» لم يكتف بهذا التعميم، بل وسّع عملياته في هذا الجانب وأصدر في حزيران 2021 التعميم 158 الذي أتاح سحب 800 دولار شهرياً، نصفها على شكل دولار نقدي، ونصفها الآخر بالليرة على سعر صرف 12000 ليرة للدولار، «ما يعني هيركات بنسبة 26%. ورغم أن التعميم 158 كان بمثابة فرصة أفضل من التعميم 151، على الورق، إلا أنه أثار قلق المودعين بسبب عدم الوضوح والشفافية، فضلاً عن عدم الثقة بقدرة القطاع المصرفي على الاستمرار في تطبيقه».

آلية تطبيق التعميم 158 لم تكن متطابقة بين جميع المصارف ما زاد من أزمة الثقة في القطاع المصرفي. لكن خلق ظروف الإنكار استمرّ، إذ إنه «في 9 كانون الأوّل 2021، أصدر مصرف لبنان تعديلاً على التعميم 151، يقضي برفع سعر الصرف إلى 8000 ليرة مقابل الدولار مع خفض سقف السحب إلى 3000 دولار شهرياً، ما يعني haircut بنسبة 68%». هذا التعديل رفع السقف الشهري للسحب من 19.5 مليون ليرة، إلى 24 مليون ليرة ما أدّى إلى زيادة إضافية في توسّع الكتلة النقدية بالليرة بنسبة 23%.
وبعد ارتفاع كبير في سعر الدولار في السوق، أصدر مصرف لبنان التعميم 161 القاضي ببيع الدولارات للمصارف لتعطيها للمودعين بدلاً من سحوباتهم بالليرة على أساس سعر صرف منصّة Sayrafa، وكان الهدف من هذا التعميم سحب سيولة الليرة الموجودة في السوق ولجم الارتفاع في سعر الصرف.
في النتيجة، بسبب كل هذه العوامل، انخفضت قيمة الليرة مقابل الدولار بنسبة 210% في عام 2021، بعدما فقدت 250% من قيمتها في 2020.


رؤية البنك الدولي للتعافي
يرى البنك الدولي أن لبنان يحتاج، بشكل عاجل، إلى اعتماد وتنفيذ خطّة إصلاحيّة موثوقة، وشاملة، وعادلة من أجل تفادي الانهيار الكامل للشبكة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ووضع حدّ فوري لخسارة رأس المال البشري الذي يسير في اتجاه لا رجعة فيه. ويجب أن تعتمد هذه الاستراتيجيّة على:
– إطار سياسة نقديّة جديد يُعيد الثقة والاستقرار إلى سعر الصرف.
– برنامج إعادة هيكلة للدين من شأنه أنّ يحقّق الحيّز المالي على المدى القصير واستدامة الدين على المدى المتوسط.
– إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي من أجل استعادة ملاءة القطاع المصرفي.
– تصحيح مالي منصف وتدريجي يهدف إلى إعادة الثقة في السياسة المالية.
– إصلاحات معزّزة للنمو.
– تعزيز الحماية الاجتماعيّة.