علي نور الدين – أساس ميديا
في منتصف الشهر الماضي، أطلق مصرف لبنان التعميم 161، الذي سمح بتحويل قيمة السحوبات النقديّة في المصارف من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار النقدي، بحسب سعر صرف المنصّة. ثمّ أعقب هذا التعميم بقرار آخر هذا الشهر، يفتح باب بيع الدولار النقدي مقابل الليرات النقديّة الموجودة بحوزة المصارف وعملائها، بسعر المنصّة أيضاً ومن دون أيّ سقف. كان الهدف الأساسي من الإجراءين معاً ضخّ الدولارات النقديّة في السوق، مقابل امتصاص السيولة الموجودة بالليرة، لخفض سعر الصرف في السوق الموازية.
في النتيجة، تمكّن مصرف لبنان من خفض سعر صرف السوق الموازية من 33,700 ليرة للدولار في 11 كانون الثاني الماضي، إلى أقلّ من 23,150 ليرة مقابل الدولار اليوم، فتكون قيمة الدولار قد انخفضت بأكثر من 33% خلال فترة قصيرة لا تتجاوز 11 يوماً. لكنّ أرقام مصرف لبنان تشير إلى أنّ هذا الانخفاض في سعر الصرف ترافق مع تطوّرات أخرى بالغة الأهميّة:
أوّلاً: تراكم الخسائر نتيجة الكلفة الباهظة لهذه العمليّات، التي انعكست في ميزانيّة المصرف خلال أوّل أسبوعين من هذا العام، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن استدامة هذه العمليّات وقدرة مصرف لبنان على الحفاظ على وتيرتها. فميزانيّة المصرف المركزي تظهر أنّ مصرف لبنان أنفق من احتياطاته بالعملات الأجنبيّة سيولة تتجاوز قيمتها 115 مليون دولار بين 1 كانون الثاني و15 كانون الثاني الماضيين، نتيجة دخوله في نفق تمويل ضخّ الدولارات بهذا الشكل. وسيؤدّي استمرار استنزاف الدولارات بهذه الوتيرة إلى احتياج مصرف لبنان إلى نحو نصف مليار دولار إذا أراد الاستمرار بضخّ الدولارات بالشكل نفسه خلال الشهرين المقبلين.
ثانياً: استمرار التضخّم في الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، التي ارتفعت قيمتها بنحو 321 مليار ليرة لبنانيّة خلال أوّل أسبوعين من هذا العام. وهذا التطوّر لا يعني فقط عدم تحقيق أحد أهداف هذه العمليّات المعلنة، أي امتصاص الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، بل يعني أيضاً توقّع عودة سعر صرف الدولار إلى الارتفاع فور توقّف مصرف لبنان عن ضخّ الدولارات في السوق، نتيجة فائض السيولة بالليرة القادر على خلق طلب مرتفع على الدولار النقدي في السوق الموازية.
ثالثاً: بند الموجودات الأخرى، الذي يعبّر عن الخسائر المتراكمة في ميزانيّات المصرف المركزي التي يتفادى المصرف التصريح عنها بصفتها خسائر ويقيّدها موجودات، ارتفع خلال الفترة نفسها بأكثر من 716 مليون دولار، وهو ما يطرح سؤالاً عن نوعيّة العمليّات المحاسبيّة التي يقوم بها مصرف لبنان في الوقت الراهن، وعن نوعيّة الخسائر التي تتراكم تحت هذا البند. هذا وتُجمع مصادر مصرفيّة عديدة على أنّ أحد أسباب تراكم هذه الخسائر يكمن في تكبّد مصرف لبنان كلفة ضخمة نتيجة شراء كميّة من الدولارات من السوق الموازية، بسعر صرف مرتفع، ثمّ بيعها بسعر صرف المنصّة المنخفض نسبيّاً. وهذه الحقيقة هي التي تفسّر أيضاً تضخّم حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، الذي ينتج من إنفاق مصرف لبنان للسيولة بالعملة المحليّة لتغطية الفارق ما بين سعريْ شراء الدولارات وبيعها.
رابعاً: ارتفعت قيمة محفظة السندات التي يملكها مصرف لبنان، والتي تشمل سندات الدين العام بالليرة اللبنانيّة، بنحو 115 مليار ليرة لبنانيّة، أي نحو 76.5 مليون دولار إذا تمّ احتسابها بسعر الصرف الرسمي المعتمد في عمليّات مصرف لبنان مع الدولة اللبنانيّة. وتعبّر هذه الزيادة عن كميّة النقد بالليرة التي احتاج مصرف لبنان إلى خلقها لإقراض الدولة اللبنانيّة وتمويل نفقاتها، أو تمويل سداد التزامات الدولة للمصارف، وهو ما يبطل أثر أيّ معالجة تستهدف ضبط كميّة السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة في الأسواق.
في كلّ الحالات، من الواضح أنّ ثمّة ما يكفي من أسباب للتشكُّك في عدم استدامة هذه العمليّات لفترة تتجاوز شهرين، بل من الواضح أنّ مصرف لبنان لا يملك أساساً القدرة الماليّة على تغطية هذا النوع من التدخّلات لفترة أطول. ولهذا السبب، من المتوقّع أن يلجأ المصرف المركزي خلال الفترة المقبلة إلى خفض حجم تدخّله في السوق تدريجيّاً، مع إبقائه ضمن الحدّ الأدنى المطلوب لمنع ارتفاعات سريعة في قيمة الدولار. وفي النتيجة، سيعاود الدولار تسجيل ارتفاعات في قيمته أمام الليرة وإن بشكل متأنٍّ ومتدرّج.
في المحصّلة، سيكون مصرف لبنان قد كرّس موقع المنصّة في معادلة سعر الصرف، من خلال ربط عمليّات السوق بها، خصوصاً أنّ الأيام الماضية شهدت للمرّة الأولى انخفاض سعر صرف السوق الموازية إلى ما دون سعر المنصّة، وهو ما يعني أنّ المنصّة باتت قادرة على استيعاب عمليّات بيع الدولار في السوق الموازية. لكنّ هذا التطوّر لن يعني قدرة مصرف لبنان على الحفاظ على سعر الصرف ضمن هامش معيّن على المدى الزمني المتوسّط أو البعيد، وسيحتاج المصرف إلى مواكبة توازنات العرض والطلب ورفع سعر المنصّة لاحقاً.
أمّا الحلّ النهائي لأزمة سعر الصرف فمن المستبعد أن يبصر النور قبل دخول خطّة التصحيح المالي حيّز التنفيذ، بالتوازي مع تدفّق دولارات قرض صندوق النقد الدولي، التي يُفترض أن تكون أداة التعامل مع أزمة عجز ميزان المدفوعات وشحّ التحويلات الخارجيّة. وبعد دخول الخطّة حيّز التنفيذ، يمكن الرهان على استعادة تدفّق التحويلات الخارجيّة، ثمّ خلق سعر صرف عائم ومتوازن للّيرة اللبنانيّة.