عماد الدين أديب -أساس ميديا
لم يناقش لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن في جنيف أيّ ملفّ شرق أوسطي سوى الاتفاق النووي مع إيران.
ما دار بين الطرفين كان “عرض أفكار”، وليس مفاوضات، حول أوكرانيا، كازاخستان، الصين، التهديد بإيقاف خط الأنابيب الروسي من ألمانيا.
قدّم كلّ طرف في هذا الاجتماع معلوماتٍ وصوراً استخبارية ملتقطة من أقمار تجسّس صناعية كي تؤيّد وجهة نظره القائلة بوجود حشود عسكرية تتّخذ أوضاعاً هجومية، ولديها أنواع تسليح حديثة في وضعيّة الانطلاق الفوري عند صدور القرار ببدء القتال.
نفى الروسي تماماً رغبته في غزو أوكرانيا ما لن تنضمّ هذه الأخيرة إلى دول حلف شمال الأطلسي وتشكّل تهديداً للأمن القومي لروسيا الاتحادية، وفسّر وجود قوات في حالة تأهّب من الشرق والجنوب والشمال الأوكراني بـ”إذا ما دعت الحاجة”.
أكّد الجانب الأميركي أنّ أوكرانيا، التي حصلت على مساعدات عسكرية من أميركا بـ650 مليون دولار لتحديث قدرتها الدفاعية، تحشد الاحتياط القتالي الخاصّ بها (150 ألف مقاتل نظامي مع إمكانية تحشيد ما بين 350 إلى 400 ألف) بهدف حماية نفسها من هجوم روسي وشيك.
وأشار بلينكن إلى أنّ “اتفاقية الدفاع الخاصة بحلف شمال الأطلسي تلزم الأعضاء في مادّتها الخامسة بدعم الحلفاء إذا ما تعرّضوا لمخاطر غزو أو تهديد لسلامة أراضيهم”.
مضيفاً أنّه “على الرغم من أنّ أوكرانيا ليست عضواً في حلف شمال الأطلسي، إلا أنّ الحلف لا يمكن أن يقف مكتوف الأيدي إذا ما تعرّضت لغزو روسي”.
إذاً نحن أمام “مناطحة” دوليّة بين الروسي والأميركي حول مسألة حسّاسة وشائكة فيما بينهما.
أخطر ما في الملفّ الأوكراني أنّ المتراجع في هذا الملفّ سوف يرسي قاعدة شكل وحجم قوّته في النظام العالمي الجديد قيد التشكّل.
يبدو للوهلة الأولى أنّ المسألة هي أوكرانيا، لكنّها في حقيقة الأمر صيانة قواعد نظام عالمي جديد.
يدخل الروسي الصراع بقوّة واندفاع مدركاً أنّ فريق الرئيس الأميركي جو بايدن يسعى إلى تصغير المشاكل والصراعات بأيّ ثمن وبأسرع وقت، وقد لاحظ ذلك بنفسه في مفاوضات فيينا التي تشارك فيها روسيا بفاعليّة ونشاط.
ولاحظ الروسي أنّ ردّ فعل الأميركي على الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية كان مرتبكاً وغامضاً ومتناقضاً، إذ بدأ أوّلاً بسياسات دبلوماسية تقليدية، ثمّ ارتبك حينما قال الرئيس الأميركي إنّنا “لا نعتبر أنّ تدخّلاً عسكريّاً روسيّاً صغيراً يستدعي ردّاً عسكريّاً”، ثمّ عاد وصحّح ذلك بنفسه، وقال إنّ أيّ تدخّل مرفوض تماماً.
لاحظ الروسي أيضاً أنّ دخول قوات المظلّيّين (النخبة) الروس في كازاخستان مرّ مرور الكرام.
يدرك الروسي أنّ الرئيس بايدن يتبع سياسة إخلاء المواقع في نقاط الصراعات، وأنّ واشنطن غير راغبة في دفع أيّ فاتورة ماديّة أو بشرية لهذه الصراعات.
وآخر سلوكيّات “الميوعة السياسية” لإدارة بايدن إعلانها أنّها تدرس الآن مسألة إعادة تصنيف الحوثيين على قائمة الإرهاب.
ولا أحد يعرف ما هو المطلوب دراسته؟
مثلاً: هل هناك شكّ في أنّها ميليشيا غير وطنية تعمل بأوامر من طهران التي تساعدها تمويلاً وتسليحاً وتدريباً؟
مثلاً: هل تتشكّك واشنطن في أنّ الحوثيين يتبعون فكر ولاية الفقيه؟
مثلاً: هل تتشكّك واشنطن في قيام الحوثيين بعمليات ضدّ مدنيين في اليمن والإمارات وضدّ الملاحة البحرية في البحر الأحمر؟
يدفعنا هذا كلّه إلى مناقشة علاقة الأميركيين بالإرهاب التكفيري.
هناك أكذوبة كبرى وضلالة أكيدة أنّ واشنطن تقف ضدّ الإرهاب التكفيري!
لو كانت كذلك فهل هناك تفسير لسلوك الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال العقود الثلاثة الماضية اتجاه الطالبان والإخوان والحوثيين؟
علاقة ملتبسة، لكنّها في النهاية علاقة دولة عظمى على استعداد للتفاهم والتعاون وإبرام الصفقات مع تنظيمات عسكرية تستخدم الدين والمذهب للسيطرة والحكم وإدارة الصراعات.
من هنا نفهم عدم تمرير مسوّدة مشروع يعتبر التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، ولا التصديق عليه في مجلسيْ الشيوخ والنواب في واشنطن.
من هنا أيضاً نفهم المفاوضات الممتدّة مع الطالبان خلال 3 سنوات في الدوحة، ثمّ تسليم أفغانستان كلّها بعد 20 عاماً من الاحتلال و3.8 تريليونات دولار و1.8 مليار دولار لبناء جيش وطني.
ومن هنا نفهم الصمت الأميركي المخجل على انتهاكات حقوق الإنسان الجماعية في أفغانستان الآن، فيما تقيم واشنطن الدنيا ولا تقعدها على صحافي أو ناشطة في مصر أو السعودية أو البحرين.
ومن هنا نفهم أنّ إدارة بايدن في بداية عهدها ارتكبت “حماقة سياسية لا تُغتفر” حينما رفعت وألغت قرار إدارة ترامب الذي يعتبر جماعة الحوثيين جماعة إرهابية.
ماذا تريد واشنطن أكثر من قيام الحوثيين بتلغيم سواحل عدن، وتهديد حركة التجارة عند باب المندب، وأكثر من تهديد ناقلات النفط، واختطاف ناقلة وباخرة شحن ترفع العلم الإماراتي؟
ماذا تريد واشنطن أكثر من قيام الحوثيين بضرب مصافي “أرامكو” وضرب بطاريات أبها وجيزان المدنية وتهديد المدنيين وترويعهم في تلك المنطقة الحدودية؟
يتحدّثون في واشنطن، عن جهل، عن “الحرب الظالمة” التي خاضها التحالف ضدّ الحوثيين، ولا يتحدّثون عن هذا النظام الانقلابي العنصري الطائفي الإرهابي في اليمن الذي يعمل أداة طيّعة بيد الحرس الثوري الإيراني.
وأخيراً لم نسمع من واشنطن ما يُشفي صدورنا عن العملية الأخيرة التي هاجمت فيها طائرةٌ مسيّرةٌ إيرانية الصنع مصافيَ نفط إماراتية قرب مطار أبو ظبي.
قرّرت واشنطن بيع المنطقة والحلفاء لأنّها لا تريد أيّ “صراع سياسي” أو “تورّط استراتيجي” بعد الآن في الشرق الأوسط، وقرّرت أن تدّخر قواها ونشاطها السياسي تجاه الصين وروسيا وتركّز اهتمامها الاستراتيجي جنوب بحر الصين والمحيط الهادئ، وليذهب الحلفاء والمنطقة إلى الجحيم إلا إذا كان هناك ما يعكّر صفو أو يهدّد أمن إسرائيل.
يجب أن لا نراهن أبداً على مظلّة الوجود الأميركي في المنطقة، لأنّ بايدن قرّر ببساطة “ادخّار جهوده من أجل منطقة أخرى في العالم”.
لمَن ستترك الولايات المتحدة أدوارها؟
في هذا الفراغ الغامض، وفي ظلّ سيولة نظام عالمي في طور التشكُّل وتقسيم النفوذ، تركتنا الولايات المتحدة لكلّ من إيران وتركيا وإسرائيل وأدواتهم في المنطقة.
وتركتنا واشنطن متيحةً بذلك أن تعود إلى نشاطها كتنظيمات داعش والقاعدة والحوثيون والحشد الشعبي والإخوان وكلّ أقلّية دينية أو مرتزقة مأجورين يريدون استغلال الفراغ الأميركي.
لن يمسح الكفّ الأميركي الدمع المتساقط على وجوهنا!
“خلاص” أصبح واضحاً أنّ معاركنا يجب أن نخوضها بأنفسنا، ولا نراهن، بعد الله سبحانه وتعالى، إلا على ذاتنا.
لقد وصلت نصال السيوف إلى الرقاب ولم يعد ممكناً الاستمرار في الرهان على الوهم الأميركي.
هذا الضعف الأميركي في عهد بايدن يُغري الإيراني والتركي والإسرائيلي والروسي بأن يذبحوا مشروع الدولة الوطنية العربية بعد أن يذكروا اسم الله!