الأخبار- حسين إبراهيم
على أن بقاء القوّات الأميركية في العراق، بالهُوية الملتبسة هذه، يطرح هواجس بالنسبة إلى واشنطن، أهمّها أمن هذه القوّات، والذي لا يمكن أن يتحقّق إلّا بمنْحها حرية الحركة، بما يشمل حرية الطيران الحربي والمسيّر في الأجواء العراقية في حال الحاجة إلى الدعم والإسناد، وهو ما سعت واشنطن إلى تأمينه عبر التذرّع بالحاجة إلى ذلك، في إطار إمداد القوّات العراقية بالمعلومات الاستخبارية والتغطية الجوية في الحرب ضدّ تنظيم «داعش». لكن هذا، على أهمّيته، لا يكفي؛ إذ تحتاج القوّات الأميركية إلى غطاء سياسي أيضاً يؤمّن «شرعية» وجودها، الأمر الذي لا يتوفّر إلّا بوجود حكومة موالية لواشنطن في بغداد. ومن هنا، تُفهم الجهود الأميركية المبذولة خلْف الكوليس لتشكيل حكومة غالبية يكون فيها لحلفاء الولايات المتحدة والخليج حصّة كبيرة، وربّما الأكبر، وتستبعد القوى المعارضة للولايات المتحدة، وخاصة «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة. لكن تشكيل حكومة كتلك، يستتبع حتماً تكثيف عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال، والتي بدأت وتيرتها تتصاعد منذ مطلع العام، حتى ما قبل ولادة الحكومة، فيما يُنتظر أن تتكثّف أكثر في حال تأليفها. أمّا في حال تعثُّر التشكيل بالصورة المطلوبة أميركياً، فسيُواجه الأميركيون مشكلةَ «شرعيةِ» وجود قوّاتهم في العراق، والتي تفتح الباب واسعاً أمام استهدافهم من قِبَل المقاومة، بشكلٍ قد لا يستطيعون تَحمُّله.
وتأكيداً لذلك، تكشف وثيقة سرّية حصلت عليها «الأخبار»، عن نوايا واشنطن الحقيقية بعدم الانسحاب، حيث يؤكد نائب قائد قوّات «التحالف الدولي» في العراق، الجنرال ريتشارد بيل، في اجتماع مع سفراء وديبلوماسيين عرب وأجانب معتمَدين في بغداد، في أيلول 2021، أي بعد إعلان الكاظمي – بايدن، أن لا انسحاب من العراق بعد 31- 12 -2021، وأن البيان الذي يُجمل حصيلة «الحوار الأميركي – العراقي الاستراتيجي المشترك بشأن الانسحاب تمّت صياغته بدقّة»، مضيفاً أن مهمّة قوات «التحالف» جرت إعادة هيكلتها منذ نحو عام، وأن التحدّي الأكبر أمامها اليوم هو كيفية إضفاء الطابع الشرعي على وجودها من خلال الحكومة في بغداد والمؤسّسات الدستورية، لكنه اعتبر أن المشكلة أن هؤلاء ليسوا الطرف الأقوى حالياً. وتكهّن بيل، بحسب الوثيقة، بأن الانسحاب الكامل سيؤدي إلى «نتائج كارثية»، إلّا أنه استبعد أن يسيطر «داعش» من جديد على العراق، كما فعلت «طالبان» في أفغانستان، مُتخوِّفاً من سيطرة ما سمّاه «الميليشيات»، في إشارة إلى فصائل المقاومة المتحالفة مع طهران.
هذه الوثيقة إنّما تؤكّد حقائق عدّة، أبرزها أن الانسحاب الأميركي هو شكلي وليس فعلياً، لكنّ الحقيقة الأهمّ هي أن ثمّة في العراق مَن لا يريد انسحاب القوّات الأميركية، بل وتواطأ مع الأميركيين على صياغة بيان يوحي بانسحاب لن يتحقّق فعلياً. وهذا الفريق راهن، وكسب إلى حدّ ما، على الانتخابات التي جرت في تشرين الأول الماضي، وأسفرت عن فوز قوى موالية للأميركيين والخليج، ليبقى «التيار الصدري» هو الوحيد من بين القوى الفائزة الذي ما زال موقفه غير واضح من الانسحاب الأميركي، على رغم أن قادته سبق أن أبدوا رضاهم عن الاتفاق العراقي – الأميركي بهذا الخصوص. وبمعزل عن النِّصاب السياسي الذي ستضمّه الحكومة الجديدة، ثمّة نِصاب سياسي موازٍ مكتمِل معارِض للاحتلال، خاصة حين يتّضح أن عملية الإجلاء عبارة عن التفاف على المطلب.
ولذا، لم تنتظر المقاومة، التي كانت قد توعّدت باستهداف القوّات الأميركية في حال لم تنسحب، طويلاً؛ فبدأت منذ مطلع العام الجديد عمليات استهداف للقواعد التي تضمّ أميركيين، مع التركيز على استهداف الأميركيين وليس العراقيين الموجودين داخل القواعد نفسها، وهذا ما حصل في عدد من العمليات، وخصوصاً تلك التي استَهدفت القاعدة الأميركية قرب مطار بغداد بخمس طائرات مُسيّرة، والسفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، فضلاً عن استهداف قاعدة «عين الأسد»، وقاعدة بلد التي تضمّ جانباً أميركياً. وترافَقت هذه الهجمات مع توتّر أمني عراقي داخلي، يُمثّل، هو الآخر، تحدّياً للقوى التي يمكن أن تسايِر الأميركيين في بقائهم في العراق. فقد تصاعدت، خلال الأيام الماضية، عمليات استهداف مقارّ حزب رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وقوات «البيشمركة» في بغداد وكركوك، فيما طاولت، في المقابل، عمليات اغتيال كوادر في «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة.
نوايا واشنطن والعراقيين المتحالفين معها، كانت قد اتّضحت تماماً خلال محادثات تقنية ختامية جرت في العاصمة الأميركية قبيل إعلان بايدن والكاظمي خطّة الانسحاب؛ إذ أبلغت مصادر في الوفد الأمني العراقي المفاوِض، برئاسة مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، «الأخبار»، في حينه، بأنه «لن يبقى بعد الانسحاب سوى المدرّبين والمستشارين الذين طَلب العراق الاستعانة بهم، مع ما يتطلّبه بقاؤهم من خدمات لوجستية ستكون بيد العراقيين»، مضيفة أنه «سيجري الانسحاب وفقاً لاتفاق عام 2008 الذي رعى الانسحاب الأوّل للأميركيين في عام 2011، قبل عودتهم في عام 2014، من دون أيّ تعديل، وهو يشمل سحب كامل الجنود المتواجدين حالياً في العراق، بِمَن فيهم أولئك الموجودون في مطار بغداد، وتفكيك قاعدتَي عين الأسد إلى الغرب من بغداد، والحرير في أربيل». لكنّ بياناً لـ«البنتاغون» عن تلك المحادثات أشار إلى أن «الجانبَين أكدا حاجة القوّات الأميركية إلى أن تتمكّن بأمان من دعم قوّات الأمن العراقية»، ما يفتح الباب أمام تأويلات لكيفية تأمين هذه القوّات، خصوصاً أن الأميركيين لا يتركون أمن جنودهم بيد أطراف أخرى.