رلى أسمر – الاخبار
التصق الفقر بطرابلس. لكن فقراءها لم يقتلوه، عملاً بمقولة «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، رغم أنه تجلى في رجال كثر. بعض فقرائها اختاروا قتل أنفسهم. آخر أشكال الموت، التحاق عشرات الشبان الطرابلسيين بتنظيم «داعش» في سوريا والعراق مقابل وعود بالحصول على راتب شهري يصل إلى 2000 دولار، فيما تنشط مبادرة بين عدد من المشايخ واستخبارات الجيش لاستعادتهم
لا يخفي إمام أحد مساجد طرابلس «انتشار الداعشية بين شبان في مقتبل العمر، يتم اصطيادهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويتعرضون لغسل أدمغة وإغراءات مالية ووعود بحوريات في الجنة». الشيخ أكد لـ«الأخبار» أنه تلقّى «شكاوى» من عدد من الأهالي أخيراً عن «تديّن مستجدّ بين أبنائهم، ووصل الأمر بهؤلاء حد تكفير أهاليهم ودعوتهم للدخول في الإسلام مجدداً والامتناع عن بعض الممارسات المنكرة كمشاهدة التلفزيون مثلاً»!
«الظاهرة الداعشية» في طرابلس بدأت بالتفشي قبل نحو سبع سنوات، مع صعود نجم التنظيم الذي نجح في استقطاب شبان من المدينة ومن الشمال عموماً. انقاد هؤلاء إلى أتون الحرب السورية حيث قضى كثيرون منهم وعاد البعض، فيما بقي عدد ممن تبوأوا مناصب قيادية في التنظيم في سوريا والعراق». ومع الضربات التي تلقّاها «داعش» في سوريا والعراق، خبت هذه الظاهرة على نحو تدريجي، قبل أن تعاود الظهور قبل أشهر مع إعلان الجيش والقوى الأمنية عن كشف خلايا مرتبطة بالتنظيم. وأخطر مؤشرات العودة ما كشفته مصادر أمنية عن مسؤولية «خلية داعشية» عن اغتيال المؤهل المتقاعد في الجيش أحمد مراد في شارع المئتين في طرابلس في آب الماضي.
الخبير في شؤون الحركات الإسلامية الشيخ نبيل رحيم ينفي لـ«الأخبار» الأرقام التي تتحدث عن «مئات المجنّدين»، مؤكداً أن عدد الذين غادروا طرابلس أخيراً والتحقوا بـ«داعش» في سوريا والعراق «لا يتجاوز الثلاثين شاباً، تتراوح أعمارهم بين 16 و 28 سنة». وأمل بـ«الوصول إلى حل لهذه القضية بمبادرة وجهود حثيثة بين دار الفتوى والأجهزة الأمنية لاستعادة هؤلاء الشبان» الذين غادروا بطرق مختلفة. فبعضهم سلك المعابر غير الشرعية عبر الحدود اللبنانية – السورية، وبعضهم الآخر غادر عبر مطار بيروت إلى تركيا ومنها دخل خلسة إلى سوريا أو العراق. علماً أن بينهم أصحاب سوابق، مثل أيمن خ. الذي سجن في سجن رومية لخمس سنوات بتهمة الانتماء لتنظيم إرهابي، قبل أن يطلق سراحه ليعاود الالتحاق بالتنظيم.
يطمئن رحيم، وهو أحد العاملين على خط مبادرة استعادتهم، إلى أن الجهود لذلك تجري على قدم وساق بين دار الفتوى والأجهزة الأمنية. علماً أن مصدراً أمنياً استبعد، في اتصال مع «الأخبار»، وصول الاتصالات إلى النتيجة التي يترقبها الأهالي. إذ إن «داعش لن يسمح بعودتهم إلا جثثاً أو مقاتلين متسللين لتنفيذ مهمات أو عبر عملية تبادل للأسرى». وفي الانتظار، يرزح الأهالي تحت خوف مزدوج: الأول على مصير أبنائهم، والثاني على مصيرهم وقد أصبحوا تحت رقابة الأجهزة الأمنية ويترصدهم المحيط.
مصدر متابع للملف أكد أن «العمل جار مع الأهل لإقناع أولادهم بالعودة في حال جرى التواصل معهم، مع تقديم ضمانات أمنية بعدم التعرض لهم، خصوصاً غير المتورطين في أحداث أمنية في لبنان. وأكد أن التجنيد يتم في لبنان من مجهولين، وأن ضابط الاتصال بين الشباب وقيادة «داعش» يزود التنظيم في العراق بأسماء شباب يحملون الفكر الداعشي، ويتم التواصل معهم عبر مواقع التواصل الخاصة بالتنظيم، وتُؤمَّن لهم طرقات التهريب براً عبر الحدود اللبنانية – السورية، مشيراً إلى ضرورة التواصل مع الدولة السورية لضبط معابر التهريب.
لكن، لماذا يجد التنظيم في الفيحاء بيئة سهلة للتمدد؟
يربط أحد مشايخ طرابلس الأمر بعاملين، «الأول بيئة المدينة الإسلامية التي تقبّلت سابقاً حركات إسلامية متنوعة. والثاني، ارتفاع نسبة الفقر والجوع والقهر والبطالة، خصوصاً في الأحياء الشعبية حيث يسهل اصطياد الشباب الضائع بين فخ المخدرات أو فخ التطرف والتشدد الديني أو فخ الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت».
فاعليات طرابلس ومشايخها يبذلون جهداً لكشف مصير الشبان خوفاً من وقوع المدينة مجدداً في دوامة التطرف. وفي هذا الإطار، أحبط الجيش محاولة فرار خمسة شبان قاصرين كانوا يستعدون للالتحاق بالتنظيم، وجرى تسليمهم إلى مفتي طرابلس المكلف الشيخ محمد إمام «بهدف توعيتهم دينياً قبل تسليمهم إلى ذويهم».
بين أحياء البداوي والقبة والتبانة وأبو سمراء والمنكوبين، يدور الحديث همساً عن شبان التحقوا بالتنظيم أخيراً. معظم هؤلاء أخفوا الأمر عن عائلاتهم التي استيقظت على خبر اختفائهم، فعمدت إلى إبلاغ الأجهزة الأمنية، فيما بعضها لا يزال تحت وقع الصدمة بعد تلقيهم اتصالات هاتفية من أبنائهم «تطمئن» إلى وصولهم إلى العراق أو إلى الحدود السورية – العراقية. وعلم أن ستة ممن غادروا تواصلوا مع أهاليهم لمرة واحدة وللحظات قبل أن ينقطع التواصل نهائياً معهم. أحد الشبان من آل عوض. ينقل أصحابه أنه «اتصل بوالدته سراً وناشدها إنقاذه بعد أن ندم على اختياره».
أكثر المغادرين من أبي سمراء والقبة. أصدقاء بعضهم أكدوا لـ«الأخبار» أن المغادرين تلقوا وعوداً بالحصول على راتب شهري قدره 2000 دولار، وأن كلفة تهريب الواحد منهم وصلت إلى سبعة آلاف دولار تولّى التنظيم دفعها. وفي هذا الإطار، أوقفت استخبارات الجيش أحد المهربين من بلدة عرسال في البقاع الشمالي، كما «تمكنت من توقيف ضابط الاتصال بين قيادة داعش والشبان»، بحسب مصدر أمني.
الشيخ عبد الكريم النشار أعرب عن خشيته من أن يكون تجنيد الشبان تمهيداً لأعمال أمنية تستهدف الساحة اللبنانية كلها وليس طرابلس وحسب، «وإلا، هل يحتاج داعش إلى عناصر فتية من طرابلس؟ وهل لديه نقص في العديد ليستعين بفتيان من طرابلس والشمال؟»، مشدداً على ضرورة التعاون بين أئمة المساجد ودار الفتوى والفاعليات «للتصدي لموجة التطرف والتشدد والتكفير الدخيلة على طرابلس. وعلى دار الفتوى تقع المسؤولية الأولى، ثم التعاون مع الأجهزة الأمنية لكشف أي خرق أمني للمدينة»