في بلد منهار ومتروك من قبل سلطة» سياسية مستنفرة على»خطوط تماس» وهمية لحماية مصالحها، ليس مستغربا ان ينتهي ما سمي بـ «يوم الغضب» الى ما انتهى اليه من مشهد «كاريكاتوري» على الرغم من احقية المطالب المعيشية المرفوعة كعنوان «للغضب» الخجول الذي لم يعم البلد. فقد انتهى نهار امس ولم يعرف اللبنانيون ماذا عن اليوم التالي؟ اتحاد النقل البرّي في لبنان، الذي لاقى دعم الاتحاد العمالي العام، المحسوبين سياسيا على رئيس مجلس النواب نبيه بري، المشارك «بقوة» في حكومة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، نفذا تحركا في الشارع اعتراضا على عدم الوفاء بوعوده السابقة، مع العلم انه يتحجج بغياب التمويل وعدم انعقاد جلسات الحكومة، المعطلة بسبب غياب «الثنائي الشيعي» المعترض على عدم معالجة ملف القاضي طارق البيطار… طبعا هكذا مشهد «سوريالي» لا يمكن ان يحصل الا في لبنان المتروك شعبه لفلتان اقتصادي ومالي قل نظيره حيث تغيب المعالجات والاجراءات الحكومية لوقف الانهيار وسط صراعات خفية تدور في السر والعلن بين اطراف سياسية تتحضر لانتخابات نيابية ورئاسية على وقع تجدد مخاوف خارجية عبرت عنها باريس من خطة ممنهجة يتواطأ عليها اكثر من طرف لاغراق البلاد بازمات اجتماعية تؤدي الى انفجار يبرر تاجيل الاستحقاق التشريعي كمقدمة لتطيير الانتخابات الرئاسية.!

وفيما تنتظر بيروت عودة «الوسيط» الاميركي لترسيم الحدود البحرية اموس هوكشتاين لمعرفة الردود الاسرائيلية على التنازلات اللبنانية، طمأن وزير الداخلية بسام المولوي رئيس الجمهورية الى متانة الوضع الامني، دون تقديم اي ضمانات او تفسير لهذا «الهدوء»، لكن مصادر سياسية لفتت الى ان الوزير «مبسوط» لان الناس لا تقتل بعضها في الشوارع، وهي تموت بصمت بعدما وصلت الازمة الاقتصادية الى مرحلة لا تطاق، لكنه يدرك ايضا ان الشارع له مفاتيحه ولا مصلحة سياسية لدى من يملكونه لتحريكه الان، وهذا يعني انه قد يتحرك امنيا في «الوقت المناسب». في هذا الوقت وفيما البلاد مهددة بالعتمة الشاملة خلال 48 ساعة، بعد تهديد اصحاب المولدات بالتوقف عن العمل، تجدد «الكباش» القضائي بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والقاضية غادة عون، فيما لا يزال الرئيس ميشال عون متمسكا بالحوار الوطني ولهذا ابقى على دعوته مفتوحة منتقدا رافضيه، فاتحا فصلا جديدا من المواجهة مع «خصومه» الذين اتهموه بمحاولة انقاذ عهده و «صهره» لا انقاذ البلد.

«غضب» دون المستوى؟

فتحت شعار «يوم الغضب» كان التحرك دون المستوى المأمول، وتقطعت اوصال مختلف المناطق اللبنانية، بعدما قطع محتجون اغلبهم من اتحاد النقل البري الطرقات بالشّاحنات والسيارات والحجارة وحاويات النّفايات وإطارات السّيارات المشتعلة، فيما أغلقت جميع المؤسّسات الرسمية والجامعات والمدارس والمعاهد الرسمية والخاصّة والمصارف أبوابها. وقد مرت هذه «التنفيسة» باقل الاضرار الممكنة لكن دون اي نتائج عملية، فالوعود الحكومية لا تزال حبرا على ورق، ورئيس الحكومة يعلل عدم تنفيذ وعوده بغياب جلسات الحكومة، وكذلك غياب التمويل بعدما رفض البنك الدولي تغطية المبلغ الذي يصل الى نحو 6 مليار ليرة غير متوفرة في الخزينة او مصرف لبنان، اما طبع العملة الوطنية فغير ممكن لانه سيزيد التضخم.

تعطيل مقصود للتفاهم

في المقابل وان كان فريق رئيس مجلس النواب نبيه بري مدركا لصعوبة الاوضاع المالية الا انه يرى بان اعطاء هذا القطاع حقوقه ممكن جزئيا بعيدا عن الازمة الحكومية لكن رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة يضغطان عبر تعطيل التفاهم للضغط في ملف الحكومة. ولهذا انتقل تبادل «الرسائل» المضبوطة الى «الشارع» لتنفيس الاحتقان، ولم يجر تعليق الاضراب كما جرت العادة سابقا بعدما نفذت اربع دعوات من اصل سبعة، ولهذا تشير اوساط معنية بالملف، ان معاناة السائقين مستمرّة وعلى الرغم من احقية مطالبهم فان استخدام الاليات نفسها وتوظيفها في السياسة يضعف الحراك ويعرّيه من مضمونه، خصوصا ان عنوان «الغضب» المفترض تائه ودون عنوان جدي لمحاسبة المسؤولين عن الانهيار في كافة القطاعات وليس فقط قطاع النقل البري، ولكن سيبقى هذا الملف عنوانا لتبادل «الرسائل» السياسية. وللمفارقة انه تزامنا مع التحرك لامس سعر صفيحة البنزين الـ 400 الف ليرة!.

العتمة الشاملة؟

وفي ظل غياب الحلول الموقتة او المستدامة لازمة انقطاع كهرباء الدولة، وبعد التصاعد الجنوني في سعر صفيحة المازوت التي وصلت الى 410 الاف ليرة، وهي مرشحة للارتفاع في الايام المقبلة،هدد تجمع أصحاب المولدات الخاصة بالعتمة الشاملة خلال 48 ساعة اذا لم يتم ايجاد حل للازمة…

«علامات استفهام» فرنسية

في هذا الوقت، ابدى الفرنسيون استغرابهم من غياب المعالجات الحكومية للانهيار الاقتصادي والمالي في البلاد، وعلمت «الديار» ان السفيرة الفرنسية آن غريو ابلغت الرئيس ميشال عون في اللقاء الاخير معه، بان ثمة علامات استفهام مثيرة للقلق لدى باريس جرى مناقشتها مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حيال حالة «الاستسلام» المريب ازاء الانهيار الاقتصادي المتواصل في البلاد والذي يترجم ارتفاعا في سعر صرف الدولار، وارتفاع جنوني بالاسعار، وشددت على ان بلادها تخشى من انفجار اجتماعي «مفتعل» سيؤدي حتما الى تأجيل إجراء الانتخابات النيابية وتهديد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، واشارت صراحة الى ان ثمة قناعة فرنسية بان ثمة قوى تدفع الى الانهيار الشامل في البلاد، مبدية قلقها من بطء سير المفاوضات مع صندوق النقد!

تبادل اتهامات!

ووفقا للمعلومات، سمعت السفيرة الفرنسية تبادل للاتهامات من قبل المسؤولين حول المسؤولية عن «الشلل» الراهن في البلاد، فرئيس الجمهورية ابلغها ان «التعطيل» يقوم به الاخرون لمنعه من «الانقاذ»، وهم اليوم يرفضون مجرد القدوم الى القصر الرئاسي لاجراء حوار حول النقاط الخلافية ومنها خطة التعافي الاقتصادي، فيما مجلس الوزراء معطل من قبل «غيره». اما رئيس الحكومة فسبق واكد ان ما باليد حيلة وهو تولى مهمة صعبة لكنه لم يكن يتوقع ان تصبح «مستحيلة» في ظل غياب «حس» المسؤولية عند المكونات الاخرى التي تقدم مصالحها السياسة على ما عداها…!

  «سباق مع الوقت» حكوميا؟

في هذا الوقت، يخوض رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سباق مع الوقت، وهو سيباشر مطلع الاسبوع المقبل، وسيبدأها مع رئيس مجلس النواب نبيه بري في محاولة لتهيئة الارضية لعقد اجتماع للحكومة لدرس الموازنة بعدما تبلغ ان وزارة المال تضع اللمسات الأخيرة على المشروع الذي سيكون جاهزا قبل نهاية الشهر الجاري، ووفقا لاوساط وزارية، يبدو ميقاتي محرجا بعدما وعد بالدعوة الى جلسة عندما تنتهي الموازنة وهو يريد الحصول على وعد من بري بحضور «رمزي» «للثنائي» في الجلسة لتمريرها، دون ان يتم دراسة مواضيع اخرى، اوعقد جلسات اخرى، واذا لم يحصل على اجابات ايجابية فان احد الحلول قد يكون تاخير انجاز الموازنة التي تعاني اصلا من مشكلة تحديد سعر صرف الدولار الذي سيتم اعتماده في اعدادها، وهي النقطة الأبرز الخاضعة للنقاشات في الوقت الراهن.

  هوكشتاين وقلق من «التنازلات»؟

في غضون ذلك، تتحضر بيروت لاستقبال «الوسيط» الاميركي في الترسيم البحري اموس هوكشتاين خلال الايام القليلة المقبلة، اذا ما حصل على استثناء من حكومته بالسفر بسبب قيود «كوفيد»، ووفقا لاوساط دبلوماسية ينتظر المسؤولين اللبنانيين جوابا اسرائيليا واضحا على «الطروحات» اللبنانية الاخيرة التي حملت في طياتها تنازلات «مغرية» عن الخط 29 الذي لم يعد خطا تفاوضيا، وبات الطرح القائم محصورا بمقايضة حق لبنان بغاز بئر «قانا» ب»كاريش» الذي كان يفترض ان يحصل لبنان على حصة وازنة منه، وثم قلق في بيروت من ان يجر التنازل الاخير تشددا في الموقف الاسرائيلي والمطالبة بالمزيد من التنازلات اللبنانية، وهو امر سيتضح مع زيارة هوكشتاين حيث اعلن وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، بعد لقائه رئيس الجمهورية، ميشال عون، انه سيحضر خلال أيام لتحريك ملف ترسيم الحدود البحرية.

«ضبابية» الغاز المصري

وفي ملف الغاز المصري، اعلن بو حبيب ان الأميركيّين أبلغوا المصريّين استثناء لبنان من عقوبات «قانون قيصر» لاستجرار الطاقة، واكدت اوساط مطلعة ان «رسائل التطمين» الاميركية تبقى دون المستوى المطلوب مصريا حيث يصر المصريون على قرارات خطية تتجاوز «رسالة» التطمينات من الخارجية الاميركية وتطالب القاهرة بضمانات من الكونغرس، ولهذا لا تزال الامور «ضبابية» حتى الان بانتظار تحويل الوعود الى امر واقع…

تاجيل الحوار لا الغائه!

في هذا الوقت، اضطر رئيس الجمهورية ميشال عون الى تاجيل انعقاد الحوار الوطني، دون التخلي عن فكرة انعقاده، بعدما ترك الدعوة مفتوحة، مع العلم ان كل الاجواء الداخلية والخارجية تشير الى انعدام فرص انعقاده فضلا عن نجاحه، بعد الردود السلبية التي جاءت من كل من رئيس تيار المستقبل سعد الحريري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية واعلان مقاطعة هذا الحوار رفضا لمحاولة «انقاذ» العهد، فيما وافق رئيس مجلس النواب نبيه بري على الحضور من موقع «الخصومة» متوقعا الفشل المسبق. ووفقا لمصادر مطلعة، فان عون المدرك لاستحالة جمع «خصومه» على طاولة واحدة، لم يرغب في «دفن» فكرته التي ولدت «ميتة»، لكنه ابقى عليها «معلقة» لادانة المقاطعين باعتبارهم مسؤولين عن تضييع فرصة «انقاذية»، يدرك هو نفسه انها غير متوافرة!

قد اشعل بيان رئاسة الجمهورية الذي دعا المقاطعين إلى «وقف المكابرة»، حربا عالية السقف مع تيار المستقبل الذي وصف الرئيس بانه «بي التعطيل». وقال مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية، في بيان، إنّه «على أثر المشاورات التي أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مع رئيسي مجلس النواب والحكومة ورؤساء الكتل النيابية بشأن الدعوة إلى الحوار، تبيّن أنّ عدداً منهم تراوحت مواقفهم بين رفض التشاور ورفض الحوار بما يحمّلهم مسؤولية ما يترتّب على استمرار التعطيل الشامل للسلطات، حكومة وقضاء ومجلساً نيابياً». وأشار إلى أنّ «دعوة رئيس الجمهورية للحوار ستبقى مفتوحة، وإذ يأمل أن يغلب الحسّ الوطني للمقاطعين على أي مصالح أخرى، يدعوهم إلى وقف المكابرة»… وفي انتقاد مباشر «للثنائي الشيعي» اكدت الرئاسة الاولى ان «استمرار تعطيل مجلس الوزراء هو تعطيل متعمّد لخطّة التعافي المالي والاقتصادي التي من دونها لا مفاوضات مع صندوق النقد الدولي ولا مع غيره…

رد عنيف من المستقبل

وفيما ردت اوساط القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي على كلام الرئيس واعتبرته متناقضا مع الوقائع ويحمل افتراءات، جاء الرد الاعنف من تيار المستقبل حيث اعتبر المستشار الإعلامي للرئيس سعد الحريري حسين الوجه في سلسلة تغريدات عبر «تويتر» انه من المحزن جداً جداً ان تصل رئاسة الجمهورية ومكتبها الاعلامي الى حدور الإنكار الكامل لمسار التخبط الذي وضعت فيه البلاد . ويتضاعف الحزن مع حالة البارانويا التي يعانيها العهد والحزب الحاكم ، حيث تنسى رئاسة الجمهورية انها تمثل الاب الروحي والسياسي لثقافة تعطيل المؤسسات وتعطيل الحوارات وينسى. بدوره، علق الأمين العام لـ «تيار المستقبل» أحمد الحريري، عبر «تويتر»، على بيان رئاسة الجمهورية قائلا: «رئيس الجمهورية يحاول أن يتهم الآخرين بما هو غارق فيه، «بي التعطيل» مضيع البوصلة، وعم يحكي بالحس الوطني، فاقد الشيء لا يعطيه.

  عون تتجه للتصعيد مع سلامة

قضائيا، «كباش» جديد بين المدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي لم يحضر جلسة الاستماع بالامس متهما عون بانها «خصم» لا «حكم»، موحيا انه لن يمثل امامها، علما ان عون حددت يوم الثلثاء المقبل كموعد جديد لمثوله، وتفيد المعلومات ان الموعد سيكون الاخير، وبعدها ستصدر مذكرة بحث وتحر بحقه او مذكرة توقيف نسبةً للأسباب التي ذكرتها سابقاً.

وقد اكد سلامة انه طلب قبل يوم من موعد الاستماع له امس بطلب الردّ الى عون وقد سجل لدى محكمة الاستئناف في جبل لبنان، وقد استلمها مكتبها في صباح هذا التاريخ وكان يتوجّب عليها ان تتوقف عن متابعة النظر في القضية الى ان يفصل القضاء المختص في هذا الطلب.

وفي تاكيد على اعتبارها «خصم لا حكم» اكد سلامة في بيانه ان القاضية غادة عون غرّدت مراراً وتكراراً، وبشكل عدائي على حسابها الشخصي على تويتر متناولة شخصه بعبارة سلبية، مستبقة الاحكام القضائية… وبحسب أبسط القواعد القانونية، لا يمكن للقاضي أن يكون خصماً وحكماً في آن واحد، وبات واضحاً أن وراء كل هذه الدعاوى التي يتقدّم بها الاشخاص ذاتهم، أسباباً سياسية.

ولم تتاخر القاضية عون بالرد على سلامة متهمة اياه بارتكاب مغالطات غير واقعية الهدف منها فقط عدم المثول امام النيابة العامة  لتقديم دفاعه في حين ان من هو واثق ببراءته ليس بحاجة للتذرع بكل هذه الدفوع التي اوردها في مذكرته. نافيا بان تكون تناولت على «التويت» اية مسائل تتعلق بوقائع الملاحقات الجارية امامها.