يراقب زعيم «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، أبو محمد الجولاني، الاقتتال المشتعل في مناطق انتشار الفصائل التابعة لتركيا شمال حلب، بعيون طامحة للتوسّع وقضم تلك المناطق بشكل تدريجي. ويأتي ذلك بعد أن أثمرت جهود أنقرة في تلميع الجولاني، وتمكَّن الأخير عبر سياسته من القبْض على مفاصل الحياة في المناطق التي يسيطر عليها، مستفيداً من استراتيجية «داعش» التي خبرها سابقاً، وتجربة «طالبان» التي يحلم بتكرارها في سوريا
اقتبس الجولاني، خلال عمليات تَحوّله، الكثير من تعاليم تنظيم «داعش»، الذي تغلغل خلال فترة ذروته في مختلف مفاصل الحياة في المناطق التي يسيطر عليها، الأمر الذي كرّره زعيم «النصرة» بشكل كامل، مضيفاً إليه تعديلات بالمظهر العام، بما يُصدّره على نحو أقلّ تشدّداً وأكثر مؤسّساتية. وهكذا، خلق الرجل نظاماً اقتصادياً يمسك هو بمفاصله كافة، جعله يتحكّم بالمنطقة التي يسيطر عليها، ويربط سكّانها وأرزاقهم به وبوجوده، وهو ما يريد تتويجه بافتتاح سجلّ مدني خاص به، ليقوم بمنْح بطاقات شخصية ومستندات للسكّان. وبينما كان الجولاني يرسّخ وجوده في إدلب، انشغلت الفصائل المنتشرة في مناطق شمال سوريا وشمال شرقيها، والتي تسيطر عليها تركيا، بالاقتتال الداخلي، الأمر الذي خلق بيئة غير مستقرّة، انتشرت فيها حالة فوضى عارمة، لم تتمكّن حكومة «الائتلاف المُعارض» من ضبطها، أو تثبيت نظام اقتصادي واضح المعالم.
الصورة المتباينة بين الحالتين، أفسحت المجال أمام الجولاني للسعي إلى قضم المناطق التي تسيطر عليها تركيا، وهو ما بدأ العمل عليه فعلاً، عن طريق تقوية علاقته ببعض المكوّنات العشائرية، ودعم عمليات الاقتتال الدائرة بين الفصائل المنتشرة في تلك المناطق لتعميق حالة الفوضى هناك. وولّدت هذه الظروف ردود فعل عنيفة من السكان، لترتفع الأصوات المطالبة باستقالة «الحكومة المؤقتة» (حكومة الائتلاف)، بالتوازي مع ظهور أصوات تنادي بوحدة الجماعات بما فيها «هيئة تحرير الشام»، وهي الفرصة التي ينتظرها الجولاني لقضم المساحات المذكورة كما قضم سابقاتها، عن طريق الانخراط في عمليات توحيد بين الفصيل الذي يسيطر عليه وفصائل أخرى، قبل أن يقوم بحلّ الأخيرة والسيطرة عليها بشكل كامل.
ويبدو أن تركيا قد ملّت حالة الاقتتال الدائمة بين الفصائل المنتشرة في مناطق سيطرتها، خصوصاً أن سببها في معظم الأحيان خلافات على السيطرة على معابر التهريب والمسروقات، إضافة إلى فشل محاولاتها دمج تلك الفصائل، عن طريق دعم عمليات التوحيد العديدة التي قامت في ما بينها، والتي ما لبثت أن انحلّت جميعها، الأمر الذي دفع أنقرة إلى بدء اتّباع سياسة جديدة تمهيداً لدمج المناطق المذكورة بشكل كامل. وبحسب المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار»، فإن تركيا أجرت سلسلة من اللقاءات مع قياديين في مناطق سيطرتها لتقريب وجهات النظر مع «هيئة تحرير الشام»، تبعها إجراء تغييرات عدة في السياسة التركية. وذكرت حسابات «جهادية» ناشطة على موقع «تويتر» أن من بين تلك التغييرات، إقالة ضابط الارتباط التركي الذي يُعرف باسم «أبو سعيد» الذي عُرف بانحيازه التامّ للجولاني، وتعيين ضابط جديد أكثر انفتاحاً على بقية الفصائل، وذلك لتقريب المسافة بين الأخيرة وبين «تحرير الشام».
التقارب الكبير الذي تدعمه أنقرة، بين جماعة الجولاني وبقية الجماعات، يأتي في وقت تنتظر موسكو من أنقرة أن تفي بتعهّداتها بعزل «الإرهابيين» في إدلب، الأمر الذي يبدو أن تركيا ترغب بتجاوزه عن طريق دمج فصيل الجولاني، الذي قدّم لتركيا الطاعة المطلقة، ببقية الفصائل، وتصدير هذا المزيج على أنه «فصائل معتدلة». ويأتي ذلك بعد أن تمكّن زعيم «هيئة تحرير الشام» من إنهاء وجود عدد كبير من الفصائل التي يضمّ بعضها مقاتلين أجانب، وهو ما يمْكن أن تقدّمه تركيا أيضاً على أنه «وفاء بتعهّداتها بعزل الإرهاب والقضاء عليه». وتُوفّر الظروف الحالية، والمساعي التركية المتواصلة لـ«توحيد الفصائل»، الأرضيّة المناسبة للجولاني لتحقيق حلمه بإعادة استنساخ تجربة «طالبان» في سوريا، وهو السيناريو الذي يبدو أن تركيا تريده أيضاً، لضمان تشكيل طوق تابع لها بشكل مطلق قرب حدودها مع سوريا، يوفّر لها بالإضافة إلى حماية حدودها والمشاريع الاقتصادية التي تنفّذها، مصدراً مستمرّاً للمقاتلين الذين يمكنها أن تستثمرهم في صراعات إقليمية ودولية عدة، مثلما استثمرتهم في الحرب الأذربيجانية – الأرمينية الأخيرة، وفي الساحة الليبية.