مثلما لبنان مشرّع على الرياح الهوجاء، العراق مشرّع على الرياح الهوجاء. ومثلما الشيعة هنا الشيعة هناك. كأقلية داخل الأوقيانوس العربي، كما داخل الأوقيانوس الاسلامي، وعانت من آلام التاريخ، ومن تضاريس التاريخ، يفترض بشيعة لبنان، كعامل مؤثر في المسار السياسي للبلاد، أن تكون على وعي (منهجي وبعيد المدى) لواقع لبنان. هذا ما ينطبق كلياً على شيعة العراق.

في الحالتين، ثمة تخوف من التداخل بين فائض القوة وفائض الفوضى. ربما … فائض القلق!

في لبنان، هناك من ينظر الى الشيعة، الذين بقوا خارج المعادلة منذ الميثاق الوطني وحتى وثيقة الطائف، على أنهم السبب في ضياع الدولة، وحتى في سقوط الدولة. في العراق أيضاً، وان كانت المشكلة الأساسية للبلدين في المنظومة السياسية، بأدائها الأخطبوطي، في ادارة الدولة وفي نهب المال العام.

قد يكون الأهم من كل هذا، أن تعي ايران، كنظام يقوم على التقاطع الملتبس بين ديناميكية التاريخ وديناميكية الايديولوجيا، مع ما لذلك من تداعيات جيوسياسية وجيوستراتيجية، مدى هشاشة التركيبة السوسيولوجية للبلدين وقابليتها للانفجار، وكونها ليست اللاعب الوحيد على خشبة لطالما شهدت تشابكاً مروعاً بين المعادلات الاقليمية والمعادلات الدولية.

حول هذه المسألة، جرت مناقشات مستفيضة، عبر مواقع التواصل، بيننا وبين شخصيات سياسية وأكاديمية شيعية عراقية. باقتضاب شديد تفرضه تقنية المقال، كانت خلاصة آراء هؤلاء أن الايرانيين الذين يتقنون بديبلوماسيتهم لغة حائكي السجاد، تغويهم في السياسة لغة قارعي الطبول.

قيل لي ان الشيعة العراقيين، قد يكونون أكثر من غيرهم من أبناء الطوائف الأخرى، معنيين، باستقرار وتماسك الوضع الداخلي لأن خراب الدولة (كخراب البصرة) يفضي حتماً الى الصراع الدموي بين قوى الطائفة، كذلك بين الطوائف والاتنيات، ودائماً بادارة جهات خارجية تراهن على تفتيت بلاد الرافدين استباقاً لأي دور تقوم به بغداد بين ضفاف الخليج وضفاف المتوسط.

هذا لا بد أن ينعكس على سوريا التي ما زالت ترزح تحت وطأة الانكشارية التركية في الشمال والانكشارية الأميركية في الشرق. كذلك على لبنان، بالهلهلة السياسية والهلهلة الاقتصادية، والهلهلة الطائفية، التي وضعته على فوهة الجحيم.

في نظر الشخصيات اياها ان وضع الشيعة في لبنان مماثل تماماً. سقوط الدولة يعني سقوط الطائفة، وامتداد الحرائق الى سوريا. وكما أن هناك أجهزة استخبارات جاهزة لاطلاق العنان ل «تنظيم الدولة الاسلامية» (داعش) في العراق، ثمة أجهزة استخبارات تراهن على اضرام حرب اهلية في لبنان. ولكن اذ يلحظ السيناريو تقسيم العراق الى أربع دول، يلحظ احداث تغيير هيكلي في الخارطةالديموغرافية والسياسية للبنان.

لكن الشخصيات العراقية ترى أكثر من فارق بين الحالة الشيعية في لبنان الذين عاشوا تجربة تاريخية، في الحقبة الأخيرة، بالقتال ضد الاحتلال الاسرائيلي، ومن ثم دحره واجتثاثه، وهو ما شكّل ظاهرة استثنائية في التاريخ العربي المعاصر، كون «الاسرائيليين»، بالبنية التوراتية الفوقية، والمقفلة، وبالأرمادا العسكرية الهائلة، ينظرون الى العرب كـ «ديدان بشرية»ينبغي محقها.

هذا بالاضافة الى أن التنوع الطائفي، وحتى الثقافي، في لبنان، جعل الشيعة أكثر قابلية للتفاعل المباشر مع مفاهيم الحداثة الغربية.

لكن «الاسرائيليين» الذين ما انفكوا، يوماً، عن التهديد والوعيد، جعلوا الشيعة في حالة من التوتر، والتحدي، ناهيك عن الاقتراب أكثر فأكثر من ايران ما دامت كل طائفة لها ظهيرها الغربي كتقليد راسخ من القرن التاسع عشر، وما دامت ايران قد قدمت، وما زالت تقدم، المساعدات ان لدحر «اسرائيل» أو لارساء معادلة توازن الرعب معها.

كما ذكرنا هذه خلاصة مقنضبة لمناقشات مستفيضة. الشخصيات الشيعية العراقية ترى أن على الايرانيين، وسواء كانت العودة الى الاتفاق النووي أم لا، أن يتركوا للرؤوس الباردة، لا للرؤوس الحامية، أن تتعامل مع الساحة اللبنانية كما مع الساحة العراقية.

اعتقادهم القاطع … ما بعد فيينا ليس كما قبل فيينا…!!