الترسيم: الخرطوشة الأخيرة بيد الرئيس
”ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
في آخر حديثٍ “مكتوب” لرئيس الجمهورية ميشال عون، نفى خلاله أن يكون لديه علم بموعد عودة الوسيط الأميركي في مجال ترسيم الحدود البحرية مع العدو عاموس هوكشتين، بدليل قوله إن “الوسيط” وعدهم حين كان في بيروت، بأنه سيزور تل أبيب ومن ثم يعود، إلاّ أنه ذهب ولم يعد!
هذه الرواية تؤكدها مصادر متعددة. وبموازاة الحديث عن عودة “محتملة” لهوكشتين منتصف الشهر الجاري وتداول أنباء بأن السفارة الأميركية بدأت حقاً بترتيب مواعيد إبتداءً من 17 الجاري، نفت المصادر أن يكون لدى الجانب اللبناني أي علمٍ بذلك أو أن يكون قد وضع بصورة أي موعد للزيارة.
إذاً نحن أمام حالة مماطلة واضحة من جانب الوسيط الأميركي الذي يوسع الشيء ثم يمارس نقيضه ثم يتذرع بأمورٍ عديدة لتبرير هدف واحد: إبقاء الملف في حالٍ من المراوحة والجمود ومن دون حسمه ما دام أن ذلك يصبّ في مصلحة الجانب الإسرائيلي. وفي معلومات “ليبانون ديبايت” أن ذريعة الوسيط الأميركي الجديدة لعدم تحديد موعد للزيارة غير المحددة أصلاً تتصل، بحسب ما نقل، بتجدد إنتشار فيروس “كورونا” ما يحتّم عليه التخفيف من تحركته!
عملياً، كان سبق للوفد العسكري التقني أن أشار إلى هذا الأسلوب المفترض أن يعتمده الجانب الأميركي، وذلك عبر مراسلة إلى الرؤساء المعنيين غداة القرار الأميركي – الإسرائيلي بتجميد “مفاوضات الناقورة” في أيار الماضي، وذكرت أن البديل أميركياً عن المفاوضات غير المباشرة، هو المماطلة واختلاق الذرائع لتبرير المماطلة ولا شيء سوى ذلك.
في الواقع من يجدر التوجه إليه في مثل هذه الحالة هو رئيس الجمهورية ميشال عون، من مقام الوكيل على الدستور، ومن مقام الشخص الذي يختبر بنفسه مدى “الإعوجاج” الحاصل في الملف، ومدى الخداع و التهرب الأميركيين، والذي ينمّ في درجة أولى عن حرصٍ على مصالح تل أبيب.
في البداية، كان رئيس الجمهورية قد التزم بوعد أسداه إلى الوكيل السابق لوزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل حين زاره في إحدى المرات، من أنه سيجمّد التوقيع على التعديلات على المرسوم 6433 أي التعديلات التي تنقل حدود لبنان من الخط 23 إلى 29 طالما أن مفاوضات الترسيم ماشية. فهل تُدرك يا فخامة الرئيس أن “مسار الناقورة” متوقفٌ منذ شهر أيار الماضي ولا بوادر إلى تفعيله؟ في المقابل “مسار عاموس” الذي يتردّد أنه خلف “مسار الناقورة” ، هو الآخر يخضع بدوره لأهواء الوسيط الشخصية ويشترط “تقديم أثمان” من قبل الزعامات اللبنانية لاستئنافه! والسؤال الذي يجب طرحه بهدوء: هل نلت ضمانةً بوقف الأعمال التطويرية الإسرائيلية في المنطقة المتنازع عليها، لا سيما في حقل كاريش مقابل ما تقدمت به؟
عملياً لا، بدليل ممارسة الجانب الإسرائيلي الحدّ الأعلى من النشاط ضمن المنطقة المتنازع عليها، رغبةً منه في الإلتزام بالمواعيد المحددة سلفاً لوصول باخرة التنقيب FPSO في آذار المقبل للشروع بعملها في حقل كاريش، وعليه يصبح التنازل المقدّم من الجانب اللبناني مجانياً ، وتصبح إعادة النظر بقرار تجميد توقيع التعديلات على المرسوم 6433 غايةً جدّ مطلوبة، ولها القدرة على “جلب” هوكشتين إلى بيروت “مخفوراً”.
في الواقع، لا يبدو أن هوكشتين مستعجلٌ على حسم أمره، وكما بات واضحاً، يطالب بـ”ضمانات لبنانية” للسير باتفاق موحد، أي عملياً يطلب التزاماً من جميع الأفرقاء اللبنانيين وعلى رأسهم “حزب الله”، بالتزام الخط 23 حتى يعود إلى بيروت، وهو نوعٌ من أنواع الإبتزاز الصريح. كيف يكون الحلّ بكسر هذه المراوحة؟ ببساطة “عبر توقيع التعديلات على المرسوم 6433″، تقول المصادر، وتضع رسالتها في عهدة رئيس الجمهورية.
عملياً، الرئيس ملزمٌ بتحرك فوري، وإذا كان ينتظر وصول هوكشتين فعلى الأرجح أن ذلك لن يحدث، أو أقلّه، الوسيط الأميركي غير مستعجل طالما أنه “قبض” ثمن عدم توقيع التعديلات على المرسوم 6433، ولو كان كذلك، لأجرى زيارات مكوكية غير منقطعة كما سبق وأعلن للوصول إلى حلّ سريع. ما الذي يدفعه إلى تسريع خطواته؟ مجدداً، توقيع المرسوم، وهي رسالة متجددة وصريحة إلى رئيس الجمهورية بإعادة وضع يده على الملف والإمساك به وحسم المراوحة والمراوغة الحاصلة من قبل الجانب الآخر.
صحيحٌ أن ما يتردد في الداخل، يُظهر أن الجانب اللبناني بات “مزروكاً” في ملف الترسيم لعدة قضايا من بينها ما يتصل بأزمته الإقتصادية، لكن الصحيح أيضاً، وهذه رسالة أخرى مذيلة بطلب إقتراح وموجهة إلى فخامة الرئيس، بأن لبنان يمتلك بين يديه خطوات سريعة وفعالة، قد تؤدي في حال حسن استخدامها، المفعول من وراء توقيع المرسوم 6433، فيما لو وجد رئيس الجمهورية نفسه محرجاً من خلف التراجع عن وعد سياسي أسداه إلى الجانب الأميركي، ولو أن هذا الأخير لم يلتزم، ويكاد يحرر لبنان من “سقفه”.
في إمكان الجانب اللبناني في هذه الحالة، اعتماد الوسائل القانونية ومن بينها إيداع رسالة اعتراض لدى الأمم المتحدة عبر وزارة الخارجية ضد “إسرائيل”، تحذر من مغبة استئناف الأعمال في المنطقة المتنازع عليها وعلى وجه الخصوص حقل كاريش قبل انتهاء “مسار المفاوضات”، علماً أن الجانب الإسرائيلي قد استخدمَ هذه التقنية في محاولته “تجميد” محاولات الجانب اللبناني، إعادة التمديد لتراخيص الإكتشاف في المنطقة الواقعة ما بين الخطين 1 و 23 والتي صدرت مؤخراً عن وزارة الطاقة. بالتوازي مع ذلك، يمكن للجانب اللبناني، أن يلجأ إلى مراسلة شركة “إنرجين” اليونانية وإبلاغها تحذيرات من مغبة استئنافها للأعمال الجارية في حقل كاريش بصفتها منطقة متنازع عليها، وهذه الأمر كما يؤكد معنيون، لا يحتاج إلى مجلس الوزراء بل إيعاز فقط من جانب قصر بعبدا. وبحسب رؤية قانونية، سترتّب خطوة من هذا النوع تهديداً لمستقبل عمل الشركة في المنطقة، وسيجعل وضعيتها القانونية “متزعزعة” وعرضة للملاحقة، ما قد يدفعها إلى التراجع.
يبقى أن كل ذلك يحتاج إلى موقف جريء. بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، أمامه فرصة ذهبية وعلى أبواب نهاية عهده، كي يتقدم باتجاه تحقيق ما عجزَ أسلافه عن تحقيقه، فهل يبادر؟