مما لا شكّ فيه أن الإقتصاد العالمي تهاوى أمام الصدمات المُتتالية التي تلقّاها من متحوّرات كورونا. التراجع الكبير في النشاط الإقتصادي والناتج عن الإقفال الذي طال مُعظم دول العالم، دفع إلى تراجع النمو الإقتصادي العالمي بنسبة 3.36% في العام 2020 بحسب البنك الدولي (بلغ الناتج المحلّي الإجمالي العالمي 87.3 تريليون دولار أميركي في العام 2019 و 84.5 في العام 2020).

فعّالية اللِقاحات ضد فيروس كورنا ونسبة التلقيح التي واكبت هذه العملية (نصف سكان العالم تلقوّا جرعتين بحسب المعلومات المتوفّرة) سمح للإقتصاد بالعودة إلى نشاطه المُعتاد خصوصًا أن مُتحوّر أوميكرون الأخير، يقترح (بحسب منظمة الصحة العالمية) المرحلة الخطرة لوباء كورونا. وهو ما دفع بالتوقّعات الإقتصادية إلى الإرتفاع بشكلٍ مُلفت مع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي بنسبة 5.7% في عام 2021، وبنسبة 4.8% في عام 2022.

هذا الإنتعاش الإقتصادي الذي شهده العالم في العام 2021، والسياسات النقدية والمالية والتوسّعية التي قادتها حكومات الدول ومصارفها المركزية أدّى إلى وفرة السيولة وهو ما رفع الأسعار خصوصًا أسعار السلع الأساسية الأولية (طاقة، سلع زراعية، معادن صناعية، ومعادن ثمينة) التي إرتفع مؤشرها من 139 نقطة في أول العام 2021 إلى أكثر من 170 نقطة في أخر العام 2021 (أرقام البنك المركزي في سانت لويس)، وهو ما يُمكن ترجمته بإرتفاع أسعار الطاقة ما بين 50 و60% والسلع الزراعية أكثر من 20% والمعادن الصناعية ما بين 18 و22%.

هذا الإرتفاع في أسعار السلع الأساسية، يعود بالدرجة الأولى إلى العوامل التالية:

أولًا – زيادة في الطلب: وتأتي هذه الزيادة لتؤكد عودة النشاط الإقتصادي إلى طبيعته وهو ما أعاد الطلب إلى مستوياته ما قبل الأزمة خصوصًا على صعيد النفط الذي إرتفعت أسعاره من 50 دولارا في بداية العام 2021 إلى 76 دولارا في نهاية العام مع وصوله إلى قمة فاقت الـ 82 دولارًا. وهنا يظهر القطاع الصناعي كمُحرّك رئيسي لهذا الطلب سواء على صعيد الطاقة أو على صعيد المعادن.

ثانيًا – نقص في العرض: فقد أدّى الإقفال إلى نقص كبير في المخزون الذي تمّ إستهلاك قسم كبير منه، حتى أن الرئيس الأميركي بايدن أعطى تعليماته بإستخدام جزء من الإحتياطي الإلزامي من النفط. وبالتالي، فإن إعادة تكوين المخزون يُشكّل طلبًا إضافيًا في الأسواق يلعب بإتجاه رفع الأسعار. أضف إلى ذلك توقيف العديد من المنشآت المُنتجة للمواد الأولية بسبب إرتفاع الكلفة، وكذلك إتفاق دول أوبك بلس الذي لجم الكمية المُنتجة يوميًا من النفط.

ثالثًا – وفر السيولة مع ضخّ السياسات المالية والنقدية التوسعية خلال الأزمة وهو ما دفع المُستثمرين إلى أخذ المزيد من المخاطر. كل هذا أدّى بدون شكّ إلى زيادة الضغوط التضخّمية التي يُحذّر منها صندوق النقد الدولي ويُطالب الدول بأخذ الحذر حتى لا تتحوّل نسب النمو الموعودة (5.7% في العام 2021، و4.8% في العام 2022) إلى فقاعات مع زيادة التضخّم.

رابعًا – تراجع الدولار مُقابل العملات الأخرى والذي دفع بمنتجي السلع الأولية إلى رفع أسعارهم لتعويض الخسائر الناتجة عن تراجع الدولار. الجدير ذكره أن أسعار المواد الأولية مُقوّمة بالدولار الأميركي وبالتالي فإن الخسارة في قيمتها تُعوّض من خلال رفع السعر.

عمليًا تتأثر إقتصادات الدول بشكل مختلف من هذا الإرتفاع في أسعار السلع الأولية بحسب هيكليتها الإقتصادية:

1- تستفيد إقتصادات المُنتجة للسلع الأولية من إرتفاع الأسعار حيث يكون النمو الإقتصادي أكبر ويكون هناك مداخيل مالية إضافية تُريح موازانات هذه الدول التي عانت خلال جائحة كورونا من إنخفاض الأسعار وزيادة الإنفاق الإجتماعي.

2- فيما يخص إقتصادات الدول المُتطوّرة المُستهلكة للسلع الأولية، فإن إرتفاع أسعار السلع الأولية ينعكس بالدرجة الأولى إرتفاعًا في كلفة الإنتاج وهو ما ينعكس بدوره إرتفاعًا في أسعار المبيع.

3- أمّا فيما يخص إقتصادات الدول الناشئة وفي طور النمو، فإن إرتفاع أسعار السلع الأولية ينعكس تلقائيًا في أسعار الإستهلاك نظرًا إلى هيكلية إقتصادات هذه الدول وبالتالي نرى أن مؤشرات أسعار الإستهلاك في هذه الدول تتأثر بشكلٍ أكبر من مؤشرات أسعار الإستهلاك في الدول المُتطورة نظرًا للوزن الكبير للطاقة والسلع الغذائية التي تُعطيه الدول في طور النمو في إحتساب المؤشر الأسعار الإجمالي. وهو أمر معروف في الإقتصاد حيث تكون البلدان الناشئة أكثر عرضة لارتفاع أسعار المواد الغذائية من البلدان المُتقدّمة، مما يعني أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة في الدول الناشئة يؤثر بشكل مباشر على التضخم العام أكثر منه في الاقتصادات المتقدمة التي تحوي هيكليتها على قطاع خدماتي مُتطوّر.

عمليًا من المتوقّع أن يُشكّل التضخّم في المرحلة المُقبلة تحدّيًا لسياسات الحكومات في دول العالم وذلك نتيجة التوقّعات بإستمرار إرتفاع أسعار السلع الأولية في العام 2022 وعلى رأسها النفط الذي يُعدّ العامل الرئيسي لإرتفاع أسعار السلع الأولية الأخرى. فالنفط يُستخدم في عملية إنتاج هذه السلع وحتى نقلها وتعليبها، وبالتالي هناك تضخّم ضمني يتغلغل بشكلٍ تلقائي في كافة أنحاء الماكينة الإقتصادية ويجعل الأسعار ترتفع مباشرة (ثمن الطاقة عن الإستهلاك) وغير مباشرة (إرتفاع أسعار السلع الأخرى).

على هذا الصعيد، تلتئم منظمّة أوبك بلس وهو تحالف يضم 23 دولة بقيادة السعودية وروسيا، غدًا الثلاثاء للبحث في زيادة الإنتاج بقيمة شهرية أخرى متواضعةٍ قدرها 400 ألف برميل يومياً، حيث يستعيد ضخ الإنتاج الذي توقف في أثناء الوباء. وإذا كانت التوقّعات بأن يتمّ إقرار هذا الأمر، إلا أن بعض الدول المُنتجّة للنفط تُعارض هذا الأمر سواء لأسباب مالية بحت (إنخفاض المداخيل نتيجة إنخفاض الأسعار) أو لأسباب سياسية (لها علاقة ببعض الملفات الدولية) أو لأسباب إستثمارية (بعض الدول غير قادرة على زيادة الإنتاج بسبب نقص الإستثمارات)، وهو ما قد يُعقّد الأمر بشكلٍ ملموس. من جهتها أخذت العديد من الدول غير المنضوية تحت أوبك بلس (مثل كندا) قرارا برفع إنتاجها من النفط وهذا الأمر سيُخفّف من الضغوطات التصاعدية على أسعار النفط العالمية مع زيادة الطلب العالمي.

الأسعار في لبنان

ينخرط الإقتصاد اللبناني ضمن إقتصادات الدول غير المتطوّرة وبالتالي فإن إرتفاع الأسعار العالمية للسلع الأولية ينعكس بشكلٍ مباشر على أسعار المواد الغذائية والطاقة والمواد الأولية في لبنان. ومع مُشكلة الدولار غير المتوفّر في الأسواق وغياب الحلول الإقتصادية بحكم تعطيل مجلس الوزراء، هناك مخاوف أن يتمّ ترجمة إرتفاع الأسعار العالمية للسلع الأولية بشكلٍ كبير في فاتورة اللبناني – المُنهكّ أصلًا من إرتفاع أسعار وصل البعض منها إلى أكثر من 2000%!

في ظل إجراءات طبيعية، كان يتوجّب على الحكومة القيام بشراء حاجاتها (خصوصًا من المحروقات) من خلال عقود آجلة تسمح لها بتلبية الحاجة إلى حين إبرام إتفاق مع صندوق النقد الدولي. لكن مع غياب الحكومة وفلتان السوق أمام بعض التجّار، من المتوقّع أن تشهد المرحلة المقبلة إرتفاعا في أسعار المواد الأولية كافة وهو ما سيزيد من مُعانة اللبنانيين وسيجعلهم يفقدون العديد من الخدمات العامة.

حاجة لبنان إلى التمويل

الحاجة إلى الدولارات أصبحت مُشكلة واقعية ولها تداعيات سلبية في حياة المواطن اللبناني وهو ما يُمكن مُلاحظته بشكل شبه يومي. عمليًا، هناك حاجة سنوية إضافية للتمويل تُقدّر بستة مليارات دولار أميركي مطلوبة بشكّلٍ مُلح في المرحلة المقبلة وذلك بهدف تغطية حاجة الإقتصاد والمالية العامة. هذا الأمر يفرض تأمينه من خلال مفاوضات مع صندوق النقد ومن خلال جذب الإستثمارات، إلا أن الشلّل الحكومي الحالي يجعل العام 2022 (أقلّه النصف الأول) محفوفًا بالمخاطر. وبالتالي فإن توقّعات النمو الإقتصادي اللبناني هي تراجع بنسبة تُقدر بحدود الـ 4% مع تضخّم بنسبة الـ 30% على أساس سنوي.

حديث الرئيس ميقاتي الأخير عن لقاء رسمي أوّلي مع صندوق النقد في منصف هذا الشهر على أن يليه لقاء ثاني في أوائل الشهر المقبل للإتفاق على صيغة نهائية للبرنامج مع صندوق النقد الدولي، يدلّ على أن المُحادثات – غير الرسمية – مع صندوق النقد حتى الساعة، تسير بسرعة كبيرة. إلا أن السؤال الجوهري يبقى: في ظل إستمرار الأزمة السياسية الحالية وإستحالة إنعقاد مجلس الوزراء، من سيُقرّ هذا الإتفاق؟