بشارة مرهج-البناء
فاجأ الرئيس نجيب ميقاتي الرأي العام عندما جزم بأنه لا يبدّل ضباطه وسط المعركة، فبدا واثقاً من أنّ كلّ ضباطه، بمن فيهم حاكم البنك المركزي، يتشبّثون بمواقعهم لا دفاعاً عن مصالحهم الذاتية، وإنما دفاعاً عن المؤسسات والنظام العام ومصالح الناس، خاصة أنهم وسط معركة إصلاح وتصحيح لنظام اقتصادي ـ اجتماعي منهار وعاجز عن إصلاح نفسه بواسطة الأدوات والوسائل التي أدّت الى سقوطه المدوي.
ولا جدال، فمن حق الرئيس ميقاتي، رئيس مجلس الوزراء، المعروف بصبره ودقته أن يدلي بهذا الموقف بناء على معلومات خاصة أو بناء على نصيحة من مستشار لم يدرس المعطيات جيداً مما يذكرّنا بالمستشار الذي أوحى لرئيس الحكومة السابق الدكتور حسان دياب بالامتناع عن معاينة الشحنة الملتهبة في مرفأ بيروت فكان ما كان من خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات سيذكرها اللبنانيون على مرّ الزمان باللوعة والسخط.
ومما يؤسف له انه لم يتقدّم في ديوان الرئيس ميقاتي، وهو غني بالكفاءات والخبرات، من قال له: «مهلاً يا دولة الرئيس فعندما تدقّ ساعة الرحيل يخضع الضباط الفعليون لقرارات القيادة السياسية ويغادرون مواقعهم تاركين للتاريخ أن يحكم لهم أو عليهم».
والحق أنه لو تبحّر الرئيس ميقاتي في التاريخ لأعاد النظر في مقولته الشهيرة التي ستتردّد طويلاً في ردهات القصور والسرايات قبل أن يطويها النسيان. فالجنرال دوغلاس ماك أرثر، حاكم اليابان، والقائد الأعلى للقوات الأميركية في الشرق الأقصى، وقائد قوات الأمم المتحدة في الحرب الكورية، استدعاه الرئيس الأميركي هاري ترومان من وسط المعركة وأبلغه في واشنطن صباح 11 ابريل 1951 قرار عزله فأدّى الضابط الأعلى رتبة في الولايات المتحدة السلام لرئيسه وغادر البيت الأبيض مبتئساً، ولكن دون ان يقع في حبائل من شجعه على التمرّد. أما القصة الأبرز في تاريخنا العربي فتعود الى أهمّ قادة العرب خالد بن الوليد العبقري الذي لم يُهزم قط في معركة والذي لقبه الرسول العربي الكريم بسيف الله المسلول. كان خالد على أهبة خوض المعركة عندما أتاه أمر الخليفة عمر بن الخطاب بالتنحّي عن القيادة… إنصاع القائد الفذ لقرار الخليفة والتحق مقاتلاً في جيش عبيدة بن الجراح حيث أبلى البلاء الحسن وساهم مساهمة كبيرة في تحقيق الانتصار الكبير.
هذا في العام أما في الخاص، فكان الأحرى بالرئيس ميقاتي أن يفتح النقاش بقضية حاكم البنك المركزي لا أن يغلقه بحجة الحرب والسلم، والحاكم ليس له صلة بالاثنين، إلا إذا اعتبرنا أنّ كلّ ما قام به من إجراءات وقرارات وتعميمات صبّت كلها في مصلحة قلة حاكمة من اللبنانيين وكانت وبالاً وحرباً على الأكثرية الساحقة وهم الذين يحتاجون قبل غيرهم الى استدراك الدولة ومبادرتها وحمايتها بعد أن استبدّت بهم هذه الأقلية المستهترة ونشرت في صفوفهم الفقر والسخط والحاجة فهجّرتهم في بلادهم وعنها في غياب، أيّ مسعى رسمي لإصلاح الحال أو تصحيح الأوضاع.
ثم يا دولة الرئيس، عندما تكون مصلحة البلاد على المحكّ ويكون مصيرها مهدّداً من داخل كما من خارج من قال إنّ الأمور تبقى على حالها دون استقالات وتغيّرات ودون مبادرة ممثلي الشعب الى استدعاء المسؤولين ومراجعتهم ومحاسبتهم وإسقاطهم متى استحقوا ذلك، ومتى كان المجلس متحرّراً من نفوذ وضغوط الطبقة الحاكمة بمالها وفسادها وتسلطها.
فإذا لم تفتح الأبواب للنقاش، وإذا لم تفتح النوافذ للهواء الطلق فكيف للدولة ان تتخلص من الجمود والعفونة والمهانة، وكيف للعدالة أن تشرع سيفها بوجه من سطا ونهب وهدر وتعامل مع المال العام كما يتعامل الصياد مع طريدته.
وبعد ماذا تنفع الحصانة المطلقة غير إغلاق الملفات على زغل وتبرئة المتهمين بدون محاكمة؟!
إنّ حاكم البنك المركزي وإنْ أعطاه القانون موقعاً مميّزاً ومحصّناً إلا أنه يبقى في كلّ الأحوال، كما سواه، وصولاً الى أعلى الهرم، تحت القانون، ولا يكتسب مكانته إلا إذا تقيّد بالقانون وأصوله ومندرجاته وكان مستعدّاً للمساءلة والمحاسبة في كلّ حين.
أما «الوجاهة اللبنانية التقليدية» التي تجعل من «الكبار» خارج المساءلة القانونية أو البرلمانية فقد ولى عهدها بعدما سقطت هذه الطبقة الفاشلة مع انهيار مصارفها الممتنعة عن الدفع، وتداعي مؤسّساتها العاجزة عن العمل، وتشظي قيمها التي يأنف منها الوحل والزبد.
لا نريدك أيها الرئيس أن تفرط بمعاونيك ومريديك، ولكن لا نريد أيضاً التفريط بحقوق البلاد وأسس الدولة وأمل الناس بالتغيير. إنّ أغلى ما يملكه الناس هو الأمل بالتغيير، فهو يأتي أولاً وبعده كلّ ما يخطر بالبال.
وإذا كان حاكم البنك المركزي يعتبر نفسه بريئاً من كلّ عيب، وحافظ على سلامة النقد اللبناني، ووقف سداً منيعاً بوجه تدخل السلطات وأطماعها ورفع شأن القانون، فلماذا لا يخضع للمساءلة؟ ولماذا يصرّ على متابعة نفس الأسلوب الذي جرّ الويلات والمصائب على البلاد وأهلها حتى لا ننسى أشقاءنا المغتربين وآلاف السوريين والعراقيين والفلسطينيين والأردنيين والخليجيين الذين فجعوا كما فجعنا بـ «أمانة» القائمين على القطاع المصرفي.
إنّ الله يأمرنا بـ «تأدية الأمانات الى أهلها» فهل صدع المؤتمنون للأمر، أم سلكوا دروب القصور واليخوت فأساؤوا لأنفسهم ولبنان ودولته التي فتحت لهم خزائنها وتركتهم يعيثون في الأرض فساداً.
فعندما خسر كبار المصرفيين، وبينهم رسميون، جزءاً كبيراً من ثرواتهم والثروات المؤتمنين عليها هرع الحاكم الى مساعدتهم تحت عنوان الهندسات المالية، فمنحهم سلفات بمئات ملايين الدولارات بفائدة لا علاقة لها بالسوق لا بل كانت أقلّ بكثير من السعر السائد.
استثمر هؤلاء الكبار مال البنك المركزي بفوائد السوق فحققوا أرباحاً خيالية. بعد تلك الهدية اضطر الحاكم الى هدايا أخرى شملت كلّ المصارف إلا تلك التي رفضت تقيّداً بالقانون. اللجنة القانونية في مصرف لبنان أفتت يومذاك بعدم جواز تلك العمليات. رفض الحاكم الفتوى وأصرّ على «مساعدة أصدقائه» فكانت الخسارة على المال العام تفوق 6 مليارات دولار.
هذه الواقعة الثابتة وحدها تكفي لإيقافه عن العمل ومساءلته أمام القضاء وأمام لجنة المال والموازنة التي ارتأت النظر الى اتجاه آخر.
لن نتكلم عن قضايا أخرى كالتي تحدّث عنها علناً القضاء السويسري وغيره في عواصم أوروبية متعدّدة. تلك أمور بيد «المجتمع الدولي» المعروف عادة بسكوته عن هذه المخالفات.
كما لن نتحدث عن قضايا عديدة عليها علامات استفهام كبيرة متعلقة بعرقلة التحقيق الجنائي، والعطاءات الكيفية، والتلزيمات العائلية، والقروض الإسكانية، والفوائد الأسطورية، والمنصات المصرفية فضلاً عن خروج أموال المحظوظين وتضليل المودعين عندما أصرّ على القول في 17 تموز 2018 أمام نقابة الصحافة: «إنّ الليرة ثابتة ولا انهيار. إنّ مصرف لبنان متحكم بسعر صرف الليرة وكلّ الكلام عن خطر يصيب سعر الصرف هو كلام لا يستند إلى أسس رقمية». ليعود فيقول أمام وفد من جمعية المودعين بحسب «النشرة» بتاريخ 10/11/2020 «إننا لسنا مفلسين وإنما نعاني من تداعيات إقليمية. إنّ المصارف لا تزال تسيطر على 90 بالمئة من حركة التداول مما يجنّب البلاد المزيد من ارتفاع معدلات التضخم».
ترى هل يعلم أحد الآن معدل التضخم؟ وهل يعلم أحد مدى اتساع رقعة الفقر المدقع في بلد تعوّد في الزمن الغابر أن يقدّم التسليفات لبعض الدول الصديقة؟
البحث يطول يا دولة الرئيس، لكن نكتفي بذلك ضناً بوقتك ووقت القارئ آملين من دولتكم إعادة النظر بنظرية الضباط التي ثبت فشلها. وبالتأكيد العمل مع المساءلة أفضل من العمل بدون مساءلة، وقد تعلّمنا الكثير جراء غضّ النظر عن كلّ مخالفة ترتكب بحجة المعركة ومستلزماتها.