سعادة مصطفى أرشيد _البناء
ذكرت في مقال سابق أنّ الوضع في فلسطين ليس بخير، لا في الضفة الغربية ولا في غزة، وقد تكأكأت عليه ضغوط الاحتلال وعدوانيته، والأزمة المالية وجائحة كورونا ومتحوّراتها، مع حالة من الفلتان الأمني والاجتماعي تمثلت في صراعات عشائرية ومناطقية حصدت أرواح مواطنين في عمر الشباب، وأتلفت ممتلكات وأموالاً، ولكن مع نهايات هذا العام، فإنّ ملامح جديدة قد ترتسم على ملامح العام الجديد، وقد أخذت تلوح في المشهد ولكنها تحتاج إلى عناية ورعاية وتطوير .
نتحسّس هذه الملامح، فنلاحظ أنّ البديل الطبيعي للصراعات المناطقية والعشائرية يتمثل في تغليب المركزي على الثانوي، الصراع مع الاحتلال لا الصراع مع الأخ والجار والقريب والشريك في الوطن، هذا ما حصل بالقرب من برقة شمال نابلس، في العملية الجريئة، وما لحق بها من ردود فعل على جانبي الصراع، ففي حين استقبل الجانب الفلسطيني هذه العملية بالإشادة والترحيب ـ مع الأسف على سرعة اعتقال منفذيها ـ ولكنها من فورها أخمدت نار الصراع الداخلي وفي ذات الوقت أشعلت الأضواء الحمراء لدى الجانب الآخر (الإسرائيلي)، تمثل ذلك بحالة من الهستيريا أصابت حكومته وجيشه، وجيش ظله غير الرسمي من المستوطنين المدجّجين بالسلاح والحقد والكراهية، المشمول والمغطى بدعم حكومي ورعاية من الأمن والجيش .
وإذا كانت هذه العملية قد أشعلت الضوء الأحمر في غرف الحكومة ومعسكرات الجيش، فإنها في ذات الوقت أشعلت الضوء الأخضر فلسطينياً، إذ أعادت قطار الصراع إلى سكته الصحيحة، طريق المقاومة والذي أعاد التأكيد أنّ جذوة الصراع وإنْ بدا أنها قد خفتت، إلا أنّ النسائم اللطيفة قادرة على نفض الرماد عنها وإشعالها من جديد، ولعلّ للاحتلال ومستوطنيه شيئاً من الفضل في ذلك وإنْ كانوا لا يُشكرون عليه ويُحسب عليهم لا لهم .
حشدَ المستوطنون عديدهم من سائر فلسطين المحتلة، وتظاهروا في مكان الحدث وقطعوا الطريق الرئيس بين محافظتي نابلس وجنين، وحاولوا العودة للاستيطان في ذات الموقع، ثم اعتدوا برعاية الجيش على المارة وعلى مواطني برقة العزل رجالاً ونساء وأطفالاً، إلا من إرادة الصمود والتحدي، وسارعت جموع القرى المجاورة لنجدتهم، ثم ما لبثت ان زحفت إليهم جموع فلسطينية من أماكن بعيدة .
يدرك العقل السياسي (الإسرائيلي) ولا بدّ (وإنْ ادّعى غير ذلك)، أنه في مواجهة جيل جديد مختلف، لم يُهزم وإنما مصرّ على الاستمرار في قتاله، ذئاب منفردة لا يتردّدون في الاشتباك مع جيش الاحتلال ومن مسافات صفرية، وتكمن خطورة التعامل مع هذا الجيل عليهم، انه قد تجاوز سياسات التنسيق والتطبيع، وأثبت أنّ فلسطينياً جديداً آخذ في التشكل وان بشكل مغاير للفلسطيني الجديد وفق نسخة الجنرال الأميركي دايتون، الذي افترض وتبجّح بأنه صنع فلسطينياً جديداً، خاضعاً وخانعاً لإرادة الاحتلال، لا يهمّه إلا راتبه وعيشه اليومي، والذي يرى في المقاومة عدواً لمصالحة الصغيرة، ولا يرى في الاحتلال عدواً، هذا الجيل الجديد وإنْ كان لديه توجهات سياسية أو عقائدية، وطنية أم دينية، إلا انه لا يتلقى الأوامر والتعليمات إلا من رأسه ولا يملي عليه أحد ما يفعل إلا ما ينسجم مع قناعاته فقط، لذلك لا يوجد جهة سياسية أو تنظيمية يمكن (للإسرائيلي) التفاوض معها أو الضغط عليها، أو تهديدها، أمر مشابه لما كان في ظاهرة الطعن بالسكاكين أو الدهس بالسيارات في السنوات الماضية .
لا شك بأنّ (الإسرائيلي) قوة لديها تفوّق وعالية الإمكانيات في مجالات السلاح والعلم والتعقب وغيرها، وانه يحقق اختراقات تطبيعية فلسطينياً وعربياً وبالقريب إسلامياً إنْ انضمّت اندونيسيا وماليزيا إلى قوافل المطبّعين، وهو يدرك أنّ للقوة حدوداً تقف عندها، لذلك نراه اليوم يعمل بطريقة الاحتواء المتعدد الأطراف، فهو يتعامل مع جهات فلسطينية تنسيقاً بجوانب مختلفة، والتزاماً بالجزء الذي يهمّه ويعود عليه بالفائدة من الاتفاقات السابقة، فيما يحرّض مستوطنيه على الاعتداء على الفلسطيني غير الرسمي وتهديد حياته وبقائه وأرضه، وفي جانب ثالث يستمرّ في التضييق والحصار على فلسطيني ثالث، ويحول دون إعمار ما دمّرته آلته الحربية لديه، إلا في حال التزم بشروطه التي لا تنتهي .
في الجانب (الإسرائيلي) هناك من يدرك ويعرف ولا شك، إلى أين سينتهي هذا الصراع في نهاية مطافه، وأن التناقض ما بين المشروع الصهيوني برؤاه وعقيدته ووظيفته مع الأمة بأسرها، هو تناقض لا يمكن جسره، وأن ما يمكن أن يفعله هو إطالة أمد الصراع وسياسة شراء الوقت، ومن أهدافه التي سنراها قريباً أن يحوّل الصراع في الضفة الغربية إلى صراع بين الفلسطيني والمستوطن، فيما يبقى هو الحكم غير المحايد والقاضي غير النزيه .
في الجانب الفلسطيني هناك من لا يزال يراهن على خيارات سبق ان جرّبت المرة تلو المرة، وثبت تهافتها في كل مرة، لا خروج عن خيار التفاوض والتنسيق الذي لا يستطيع إنهاء صراع وجودي، والاعتقاد أنّ المسألة الفلسطينية لم تعد مسألة شعب وحقّ وأرض ووجود، وإنما مسألة عيش تنتهي حدودها عند فتات تسهيل أو راتب أو دعم مالي من جهات خارجية، الأخبار لا تشجع، فبحسب ما أوردته القناة (الإسرائيلية) التاسعة أنّ اللقاء الفلسطيني ـ الإسرائيلي عالي المستوى الخير الذي عقد الثلاثاء الماضي قد بحث أموراً أمنية واقتصادية وتسهيلات، وقد تمخض حسب المصدر نفسه، عن إصدار وزير الدفاع تعليماته لإصدار 600 تصريح لرجال أعمال كبار يتيح لهم دخول مناطق 1948 وعن 500 تصريح آخر يسمح بدخول حامليه بمركباتهم وعشرات تصاريح V I P لكبار الشخصيات والمسؤولين.
ملامح جديدة قد نراها في عام 2022، وهي فرصة يستطيع الفلسطيني أثناءها، إنْ توفرت لديه الإرادة السياسية، وعلى الاختيار بين المصالحة الحقيقية، والفتات المطروح عليه، وحتى على تخفيض مستوى المسألة من المستوى السياسي إلى المستوى الأمني ـ الاقتصادي… أن يحافظ على جذوة الصراع وأن يعمل على أن تكون مدخلاً لحلّ أزماته الداخلية لا العشائرية والمناطقية فحسب، وإنما السياسية، باعتبار الوحدة على قاعدة المقاومة هي المدخل للوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، مع التكرار والتذكير بعبارة: إنْ توفرت الإرادة السياسية، فهل تتوفر مثل هذه الإرادة؟
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير – جنين – فلسطين المحتلة