اختُلف بشأن أصل تسمية غرناطة ومعناها، وأنا أميل إلى الرأي بأنها تعني الرمانة من اللاتينية GRANATUM، وكانت تُسمّى بـ”غرناطة اليهود” أي رمانة اليهود لكثرة اليهود الذين عاشوا فيها، هكذا قالت لنا مارييلا التي كانت دليلنا السياحي أو الدليلة.
ولا أدري لماذا نؤنث للتفخيم، فنقول فلان “علاّمة” للدلالة على معرفته وسعة علمه واطلاعه. ونقول فلان “حافظة”، وربما “حفاظة”، لعل الأخيرة تلاشت مع ظهور بيبي جونسون، والحافظة هو الذي يحفظ كثيراً ولديه ذاكرة تصويرية/ فوتوغرافية.
ونقول في القصص الشعبي، إنه ذهب “للعارفة”. والعارفة قد يكون رجلاً أو أنثى. وهو الحكيم الذي يستشار لحل الألغاز وفك الرموز وشرح الغموض.
ونقول باللهجة “فلان دليلة”، كناية عن معرفته الدروب والفيافي والقفار والطرق في الصحراء، في الليل الحالك. ولعل أشهرهم كان بن هدباء الرشيدي الذي كان يُضرب به المثل، فيقولون “شدعوا يا بن هدبا”، استهزاء بمن يدّعي معرفته الدروب والطرق وهو لا يعرف شيئاً.
وجاء “الجي بي أس”، فتلاشت أسطورة بن هدبا، فيقال فلان – ما شالله عليه – “جي بي أس”. ولا أعرف إن كان “الجي بي أس” مؤنثاً أو مذكراً! مستعارة من مختصر الإنجليزية GLOBAL POSITIONNING SYSTEM وليس بالإنجليزية الحديثة تأنيث وتذكير للأسماء إلا ما ندر.
نؤنث للتفخيم، لكن بعضنا لا يفخّم الأنثى، بل يحقّرها!
قمنا بجولة في غرناطة وحواريها القديمة، ما زالت الأسماء فيها في الغالب عربية أو تَلوْتَنت (من اللاتينية) لسهولة النطق بعدما كانت بالعربية. وقد تحتاج تلك الأسماء إلى مقالة خاصة.
توجهنا في اليوم الثاني إلى قصر الحمراء، وأمضينا فيه نصف نهار نقرأ الشعر والمخطوطات والأقوال على جدرانه. وعبارة “لا غالب إلا الله” في كل زاوية وكانت شعارهم. وقالت لنا مارييلا: “أغبطكم لأني لا أقرأ العربية”.
وكان المكان يعج بالسياح، وغالبيتهم من الإسبان لتزامن زيارتنا مع عطلة رسمية في البلاد. وكان العرب قلة، ولا أظن ذلك بسبب الجائحة وصعوبات السفر. فلقد لاحظت ذلك في الزيارة الأولى للحمراء قبل عشرين عاماً تقريباً. القصر تحفة أخاذة تبهر الأبصار، وتسرّ الناظرين.
كانت الدليلة منصفة بشرحها بالإنجليزية لتاريخ المدينة والقصر، وسقوطها في يد المسيحيين – هكذا كانت تسمّيهم- بعد أن نقضوا العهد مع “المسلمين” – هكذا تسمّيهم. وقّع آخر ملوكها أبو عبدالله الأحمر اتفاقية الاستسلام للملكة إيزابيلا والملك فرديناند، في الثاني من يناير (كانون الثاني) 1492. ونصت الاتفاقية على تأمين الرعايا المسلمين على أموالهم وبيوتهم ومساجدهم ودينهم، وغادر الأحمر إسبانيا إلى تلمسان، في الجزائر، ليموت هناك بعد سنتين من الاستسلام وتسليم المدينة الجميلة إلى الخصوم، بعدما أدرك أنها ساقطة لا محالة، فخاف أن يحل بها ما حل بقرطبة التي تعرّضت لسياسة الأرض المحروقة بعد سقوطها.
لكن، ما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأ المسيحيون ينقضون العهد – كما شرحت مارييلا حرفياً، فبدأوا بمضايقة المسلمين وإرهاقهم بالضرائب، فثارت بعض القرى المسلمة وكان مصيرها الحرق والقتل بمن فيها. وأطلقوا محاكم التفتيش التي فرضت التحوّل إلى المسيحية أو الجلاء إلى المغرب أو الموت.
وفي زيارة إلى مدينة روندا في الأندلس، واسمها من العربية “روضة”، وتبعد عن غرناطة نحو ساعتين في السيارة، وقفت على جرف شاهق كان المسلمون يُرمون من أعلاه، وكان واحداً من نماذج مروّعة لما حل بالمسلمين هناك.
تحسّر صديقي على الأندلس، وتأوّه على فقدان هذه الأرض الجميلة، وأطلق آهات تلو الآهات، سائلاً: “متى سنسترجع هذه البلاد؟”. ضحكت مشفقاً: من نحن؟ هل تسأل بجد أم هزل؟
كنت قد زرت مع الصديق نفسه مدينة إسطنبول التي أعتبرها من أجمل مدن العالم، فذكّرته بجمالها وثرواتها الحضارية والثقافية والتاريخية الهائلة، وقلت له: هل تعلم أن هناك من اليونانيين وغيرهم من متعصبي المسيحية من هم مثلك يطلقون الآهات والحسرات على إسطنبول – القسطنطينية- التي تُعدّ منبعاً روحياً ومركزاً دينياً وحضارياً للمسيحية- خصوصاً الأرثذوكسية، وبأنهم يتحسرون على كنيسة آيا صوفيا التي صارت مسجداً مثلما تحسر أبي البقاء صالح بن يزيد الرندي على مساجد الأندلس.
حتى المساجد صارت كنائس/ ما فيهن إلا نواقيس وصلبانُ
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة/ حتى المنابر تبكي وهي عيدانُ
وتعيش إسطنبول – القسطنطينية في الوجدان الغربي كما تعيش غرناطة في وجدان العرب والمسلمين، بل لعلها أعمق في وجدانهم من الأندلس بالنسبة إلينا، لبعدها الروحي والديني عندهم.
نظر إلي ينتظر الخلاصة.
تابعت: جاء العرب المسلمون إلى الأندلس وسيطروا عليها، فأخذوا بناتها سبايا، وأمنوا من يبقون على دينهم شريطة أن يدفعوا الجزية “وهم صاغرون” أو أن يتحولون إلى الإسلام، ومن يرفض الخيارين ليس له سوى الموت والقتل. وأقاموا الحضارة الرائدة في العالم، في حينه، فكانت حضارة “سادت ثم بادت”. ولو أن العالم أراد “تصحيح” ما جرى في التاريخ من مآسٍ، لانفجر انفجاراً لا يبقي ولا يذر. عش الآن -يا صديقي – في واقعك، وحاول أن تنظر إلى الماضي بما يمنع مآسيه، وتطلع إلى المستقبل بما يحقق التعايش والسلم فيه.
أما الحمراء، فلئن كان الرندي قد رثاها قبل خمسة قرون، فقد جدد نزار قباني الرثاء بعد خمسة قرون في قصيدة شهيرة منها:
لم يبقَ من غرناطة ومن بني الأحمر إلا ما يقول الراويه
غير “لا غالب إلا الله” تلقاك في كل زاويه
لم يبقَ إلا قصرهم كامرأةٍ من الرخام عاريه…
تعيش – ما زالت- على قصة حبٍّ ماضيه…
تأوّه يا صديقي كما تشاء، أو تفكر وتأمل، وانظر إلى الماضي كدروس، وليس كصفحة وردية من الوهم والسراب تريد العودة إليها. دع عنك الوهم والحلم “فيا ليتها تسلم براس مزيد”!
المصدر: اندبندنت عربيّة