بدّد 18 مليار دولار فيما حاجة لبنان للنهوض 15 ملياراً | سلامة: لنعد إلى النموذج – الكارثة!
«فلنعد الكرّة وكأن لا إفلاس وقع ولا انهيار حصل». هذه قد تكون الرسالة الأكثر وضوحاً في كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أمس. «وصفة» سلامة للنهوض «بسيطة»: نستدين لندفع الديون ونموّل الاستهلاك، ثم نستدين لدفع ما استدنّاه وتمويل المزيد من الاستهلاك. يريد سلامة، بعد كل ما حصل، نفخ الروح في النموذج الذي أوصل إلى الكارثة!
بحسب المعلومات المستقاة من مصادر مطلعة، فإن الشامي وسلامة ليسا على وفاق في ما يتعلق بتحديد أرقام الخسائر. الطلات الإعلامية لكليهما تهدف إلى ترويج وجهات نظر تعاكس كل ما قيل عن اتفاق على الأرقام وتوحيدها. فمن وجهة نظر الشامي المعلنة، بلغت خسائر القطاع المصرفي 68 مليار دولار. لكن، وفق المعلومات، لا يعترف سلامة إلا بخسائر قيمتها 55 مليار دولار، وأن المبلغ الباقي يمثّل ديوناً على الدولة اللبنانية التي وعدته بردّها. وتشير المعلومات إلى أن سلامة كان متشدداً في هذا الأمر، وقال إنه يملك مستنداً من وزارة المال موقعاً من وزير المال فؤاد السنيورة يضمن له ردّ هذا المبلغ، بالتالي لا يمكن اعتبار هذا المبلغ ضمن الخسائر.
ما يقصده سلامة بهذه الذريعة هو أن الدولة اللبنانية عندما طلبت منه تسديد بعض الدفعات بالعملة الأجنبية، سدّدت له قيمة هذه الدفعات بالليرة، لكنه بدل أن يسجّلها عملية تحويل عادية من ليرة إلى دولار، ابتدع طريقة محاسبية غير مألوفة، إذ سجّل الدفعة في دفاتر مصرف لبنان في قيد محاسبي مزدوج أحدهما بالليرة والثاني بالدولار. القيد المحاسبي بالليرة هو دين عليه متوجب للدولة اللبنانية، والقيد الثاني بالدولار هو دين له على الدولة اللبنانية ردّه. بهذا المعنى سجّلت القيود في ميزانية مصرف لبنان على النحو الآتي: مبلغ الدين بالدولار المتوجب على الدولة، سُجّل كأصول عائدة لمصرف لبنان، فيما سُجّل المبلغ بالليرة كالتزامات تجاه الدولة.
بمعزل عن التسمية التي أطلقها سلامة على هذه القيود المحاسبية، من الضروري الإشارة إلى أن مصرف لبنان هو الجهة التي يفترض بها أن تؤمن الدولارات للدولة. وهو يقوم بعملية تحويل عادية كآلاف عمليات التحويل التي درج على القيام بها لمصلحة مؤسّسات عامة ولتجار القطاع الخاص وزبائن المصارف المضاربين على العقارات وسائر الزبائن من دون أن يسجّل أياً منها في قيوده باعتبارها أصولاً ستعود له يوماً ما.
يضاف إلى ذلك أن هذه القيود لا معنى فعلياً لها عند احتساب النتيجة المالية سواء كانت خسارة أو ربحاً. فبإمكان سلامة، أو أي كان، أن يُطلق على هذه القيود الاسم الذي يريد، لكن هذا لا يمنع أن نتيجتها الفعلية خسارة. فليسمّها سلامة ما شاء، لكن الواقع أن الدولة اللبنانية التي أعلنت توقفها عن دفع سندات اليوروبوندز، أي سندات الدين بالعملات الأجنبية، لم تعد قادرة على تسديد أي دين آخر بالعملة الأجنبية سواء لمصرف لبنان أو لغيره. ما يسري على سندات اليوروبوندز يسري على كل ديون الدولة بالعملة الأجنبية. أصلاً لو قرّرت الدولة ردّ هذا المبلغ لمصرف لبنان، فليست لديها مداخيل بالعملات الأجنبية تتيح لها تسديد مبلغ 13 مليار دولار. فالدولة لا تتعامل إلا بعملتها ووظيفة المصرف المركزي أن يوفّر لها العملات الأجنبية لتسديد مدفوعاتها.
وعند احتساب النتيجة المالية، فإن الخسائر أو الربح المتحقّق هما نتيجة مجموع العمليات الجارية بمعزل عن الاسم الذي يُمنح لها. فهناك عملية نفذت اسمها مدفوعات للدولة اللبنانية بالعملة الأجنبية أجريت يوم كان سعر الدولار 1507.5 ليرات وسطياً، والدولة ممثلة بوزارة المال سدّدت له بالليرة اللبنانية ما يوازي قيمة التحويل الذي تريد تنفيذه، بالتالي انتهت العملية عند هذا الحدّ.
عملية المواربة التي يقوم بها سلامة لا تنتهي عند هذا الحدّ. ففي تصريحه الأخير لوكالة الصحافة الفرنسية، أمس، يشير إلى أن حاجة لبنان للنهوض تتراوح بين 12 و15 مليار دولار، منها 4 مليارات سيتم تحصيلها من حصّة لبنان من صندوق النقد الدولي، والباقي من مانحين آخرين. ما يقوله سلامة هو أن النموذج الذي كان هو «صانع الألعاب» فيه، يمكن إعادته إلى الحياة بمبلغ كهذا، من دون الإشارة إلى ما سيرتّبه هذا المبلغ من ديون إضافية على لبنان، ومن دون أي اعتبار للكلفة التي تكبّدها الاقتصاد اللبناني منذ 2019 وتواصل التراكم لغاية اليوم.
الأنكى من ذلك، أن سلامة يحاول إلغاء مفاعيل ما قام به متناسياً أنه كان يملك في مطلع 2019 نحو 32 مليار دولار جمع بعضها بفضل هندسات مالية مكلفة جداً، فيما هو يعترف الآن بأن لديه في محفظته نحو 14 مليار دولار، أي أنه أنفق نحو 18 مليار دولار، أي 120% من المبلغ الذي يقول إن لبنان يحتاجه للنهوض.
لكن لماذا يقول سلامة إن لبنان بحاجة إلى هذا المبلغ للنهوض؟ يقول ذلك باعتبار أن مفاعيل العلاقة مع صندوق النقد الدولي ستؤدي إلى استقطاب هذا المبلغ وإلى النهوض. لكن ما هي العلاقة المرتقبة مع صندوق النقد؟ هي العلاقة التي تُحدّد فيها الخسائر ويتم توزيعها أيضاً، أي أن يتم استئصال الخسائر من القطاع المصرفي كمقدمة لإعادة هيكلة الدين العام وإعادة هيكلة المصارف ولتحديد الخطوات المستقبلية. وتتطلب هذه العملية توحيد سعر الصرف وإقرار الكابيتال كونترول، وتحديد سعر الصرف المستهدف، وتحديد مؤشرات التضخم المتوقعة، وحجم الناتج المحلي الإجمالي وسواها.
في النتيجة، حاجات لبنان سيتم تحديدها على هذه الأسس، وهذا ما يثير سؤالاً أساسياً: لماذا يماطل سلامة منذ نحو سنتين في تنفيذ كل هذه الأمور التي وردت في خطة حكومة حسان دياب؟ ألم يكن لديه يومها المبالغ التي يقدّرها اليوم للنهوض؟ ألم تكن حاجة لبنان الفعلية للنهوض تتطلب مبلغاً أقلّ؟
إذاً، لماذا انتظر كل هذا الوقت وحمّل عموم اللبنانيين خسائر هائلة في مداخيلهم وأصولهم ومدخراتهم من أجل الوصول إلى هذه المرحلة؟ وفي مقابل ماذا تحمّل المقيمون في لبنان كل هذه الخسائر؟ ومن أجل ماذا ارتفع سعر الدولار إلى 29 ألف ليرة، وبلغ تضخّم الأسعار 500%، وبأي خلفية يهاجر اللبنانيون أو يجوعون؟
في الواقع، يواصل مصرف لبنان تنفيذ المسار الذي رسمه منذ البداية، أي تحميل المجتمع الخسائر. يراهن سلامة على أن الوقت يلعب لمصلحة هذا المسار. وهو لا ينتظر أي تعديل عليه، بل يصدر تعاميمه وفقاً لذلك، وبمعزل عن المحادثات الدائرة حالياً مع صندوق النقد الدولي. يظهر سلامة بأنه غير مهتم بكل ما يحصل خارج دائرته التي حدّدها قبل فترة طويلة، ولا يهتم بما يقوله الشامي. وليس هو وحده من يقوم بذلك، فالمصارف أيضاً التقت بالشامي مرات عدّة، وفي كل مرة كان كلامها واحداً: ليست لدينا خسائر. ما يقوله سلامة والمصارف، وما يفعلونه أيضاً، ليس عملاً من جهة واحدة، بل يأتي برعاية قوى السلطة وتحت نظرها.
نحو «بونزي» جديدة
أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لوكالة الصحافة الفرنسية أنه «بقدر ما نتمكّن من استقطاب الأموال… بقدر ما نتعافى بسرعة… هذا هو المفتاح ليستعيد البلد نشاطه الطبيعي». المقصود بهذا الكلام، هو إعادة النموذج القائم على مخطط بونزي الاحتيالي. فإذا أتى الكثير من الأموال سنتعافى سريعاً، لكننا أيضاً سنستهلكها سريعاً تماماً كما استهلك سلامة نحو 18 مليار دولار منذ مطلع 2019. مخطط «بونزي» هو استقطاب الأموال لدفع الديون القديمة وتمويل الاستهلاك الجاري، ثم استقطاب المزيد لدفع المزيد من الديون وتمويل المزيد من الاستهلاك… هذا الدوامة التي كان يديرها سلامة، أوصلتنا إلى ما حصل اليوم، وهو ما يمكن أن يحصل مجدداً إذا لم يصار إلى إجراء أي تعديل فعلي في بنية النموذج الاقتصادي للبنان.