يربط السوريون جيداً بين نظام الأسد، والعصابات العشائرية والطائفية التابعة له والمسماة بالشبيحة، في إشارة للطبيعة المافيوية لهذا النظام، والتي تجعل من تفاهمه مع نظام بوتين سهلاً. لكن التقاء الجوهرين بشكل كامل يقتضي توحيد الاستراتيجية والأسلوب أيضاً، وهو ما يحدث بالتدريج منذ العام 2015، عبر دمج هذه الشركات في بُنية النظام قانونياً وميدانياً.
تتمثل عقيدة روسيا العسكرية المعاصرة، في نظرية رئيس أركان الجيش الروسي الحالي، فاليري غيراسيموف، حول الحرب الهجينة التي تركز على الحرب بالوكالة، وتحظى الشركات الأمنية الروسية الخاصة بدور رئيسي فيها للتغلب على الدفاعات الأميركية، وسد الفجوة في قدرة روسيا على مواجهة التفوق الأميركي الساحق. وقد ظهرت هذه الشركات عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، من تزاوج معطيَين: الأول، وجود ثروات غير معروفة المُلكية، وعلى رأسها شركات النفط والغاز. والثاني، هو العدد الهائل من عناصر الجيش والاستخبارات العاطلين عن العمل، لا سيما مقاتلو القوات الخاصة والمخابرات. وقد عمد بوتين إلى خصخصة القطاعات الاقتصادية العائدة للحقبة السوفياتية، وأوكل إدارة هذه المؤسسات لرجالات موثوقين من قادة المخابرات والسياسيين المرتبطين به شخصياً، خصوصاً شركات الأسلحة والطاقة، وأوجد لكل واحدة منها جيشاً أمنياً خاصاً بها، أوكل قيادته لشخصيات أمنية وعسكرية مقربة منه أيضاً.
وفي تعليق له العام 2019، قال رداً على سؤال في مؤتمره الصحافي السنوي حول نشاط مجموعة “فاغنر” خارج الحدود: “لا يمكن حظر الشركات الأمنية الخاصة في البلاد، لأن مليون شخصاً يعملون فيها”. ما يعني أن هذه باتت جيشاً حقيقياً يستخدمه في السيطرة الداخلية كما في الصراعات الخارجية، ويحلو للخبراء الغربيين تسميته بـ”جيش الظل الروسي”.
منذ بداية تدخله في سوريا، أرسل بوتين تلك الشركات لتحصد ما يزرعه سلاحه الجوي على الأرض، ووضعت شركة “فاغنر” يدها على حقول النفط والغاز التي يُحتمل أن تنتزعها روسيا من أيدي “أعداء النظام” كما أوضحنا في مقال سابق، لكنها عملت من جهة أخرى على تمهيد الطريق لاستضافة المزيد من الشركات الأمنية الروسيّة، أو صناعة فروع محليّة منها.
تم إصدار قانون لإنشاء الشركات الأمنية الخاصة في سوريا بعدما كان ذلك ممنوعاً. وتشير سجلات العام 2019 إلى تأسيس 78 شركة، ثم ظهرت شركات غير مسجلة، محمية بالنفوذ الروسي واستثماراته في قطاعي الطاقة والفوسفات على وجه التحديد. فمنذ العام 2013، بدأ التعاون بين الشركات الأمنية الروسية، ومليشيات محلية، بينها مليشيا “صقور الصحراء” التي يقودها الأخوان محمد وأيمن جابر، وقد أسساها على نحو يشبه شركات الأمن الروسيّة المرتبطة بقطاع النفط، وتألفت من ضباط سابقين وقدامى المحاربين، وقد نجحت هذه القوات في انتزاع وتثبيت السيطرة في مواقع نفطية عديدة، وأخرى لإنتاج الفوسفات في منطقة تدمر-شرقي حمص. لكن الشركات الأمنية الروسيّة وجدت حليفاً أقوى وأكثر موثوقية في العميد سهيل الحسن، الذي يقود “قوات النمر” المعروفة. فتولت تدريب ودعم تلك القوات اعتباراً من العام 2015، وحاربت جنباً إلى جنب معها، ويتصرف الحسن اليوم كرئيس شركة أمنية كبيرة بأهداف مختلطة سياسية وعسكرية ومالية.
اليوم، تسيطر عشرات الكيانات الهجينة، الأمنية والاقتصادية والسياسية، بصيغة شركات أمنية معلنة أو غير معلنة، على الاقتصاد في داخل سوريا، لا سيما بعد هروب الغالبية العظمى من الفعاليات الاقتصادية ورؤوس الأموال خارج البلاد. ومع أن النظام يسيطر على عدد منها، مثل تلك الملحقة بالفرقة الرابعة التي يقودها شقيق رأس النظام، ماهر الأسد، ويديرها “أبو علي خضر”، إلا أنه لا يملك سوى سيطرة جزئية على كيانات مُسَيطر عليها إيرانياً، مثل مجموعة القاطرجي ولواء الباقر، ويكاد لا يحوز أي سيطرة على الكيانات التي تقع تحت سيطرة الروس، مثل “قوات النمر” والمجموعات التابعة لـ”فاغنر”.
لم تنشأ الشركات الأمنية البوتينية من فراغ، بل من سياق تاريخي ارتبط بانهيار الاتحاد السوفياتي. وبأثر من تشابه أوضاع سوريا التي كانت تدور سابقاً في فلك هذه القوة العالمية، مع ظروف روسيا في مرحلة الانهيار، من حيث هي دولة فاشلة، إضافة إلى وجود كتلة وازنة من الشبان الذين لم يعرفوا سوى القتال مهنة من دون أي فرص عمل أخرى أو إمكانية لإعادة التأهيل، ومع العقوبات الغربية المفروضة على النظام السوري وأذرعه الرسمية، فمن الطبيعي إن يلجأ الأخير لاعتماد النهج البوتيني في إدارة الدولة، واستبدال الشبكات العائلية والطائفية التي حمته طوال الحقبة السابقة، بشبكات تقوم على المال والأمن والسياسة معاً، مع روابط خارجية مع موسكو بالدرجة الأولى، لكنها لن تقتصر على هذه الأخيرة. فقد أسست كل من إيران وتركيا، كيانات مشابهة تتبع لها على الأرض السورية، ولديها مهمات استراتيجية ينبغي تنفيذها بهذه الأداة الأقل كلفة مادياً من الجيوش النظامية، من دون ارتدادات سياسية وقانونية مباشرة لها.
في الأسبوع الفائت، فرض الاتحاد الأوربي عقوبات على مجموعة “فاغنر” الروسية، كردٍّ “على أعمالها المزعزعة للاستقرار في أوروبا وأفريقيا”. وأوضح دبلوماسي أوروبي أن “فاغنر موجودة في 23 دولة في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تتواجد روسيا، لا سيما في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، لكنها تتدخل أيضاً في ليبيا وسوريا وأوكرانيا”. لكن “فاغنر” وسواها، ستجد ملاذاً آمناً في سوريا مع مرور الزمن، مستفيدة من واجهة قانونية تتيحها الشرعية التي ما زال المجتمع الدولي يمنحها لنظام الأسد، وسيكون المعنى الحرفي لاستمراره هو ازدهار هذا القطاع الشيطاني وبثّه الخراب في كل ما يحيط به. وما شحنات الكبتاغون التي تجتاح الشرق الأوسط وتصل إلى أوروبا، وبعثات المرتزقة المتطايرة في الاتجاهات كافة، سوى أولى الثمار السوداء للصمت الدولي والإقليمي على المأساة السورية، والتواطؤ العلني مع مسببها الأوحد، المُعترَف به قانونياً وسياسياً ممثلاً “شرعياً” لسوريا في المحافل الدولية.