“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
تدورُ الدائرةُ على المختارة، تضيق وتتّسع بحسب الموسم والظرف السياسي وكذا الإنتخابي، وحالُ الحالة الجنبلاطية اليوم يختلف عن السابق.. أين وليد جنبلاط الذي كان يقول أن في إمكانه تنصيب العصا نائباً فيجعلها كذلك؟
دون أدنى شك تبدّلت الأحوال وتغيّرت في ربوع المختارة، و17 تشرين لفحت الدار الجنبلاطية بنسمةٍ باردة كما لفحت غيرها، بلّ وأمطرت وبدّلت في الأرض حتى نبت العشب وكاد أن يعلو بين الجمهور و الدار بمقدارٍ يتيح للغزال أن يرعى. من ينكر اليوم وجود أزمةٍ بين البيئة الجنبلاطية أو أقلها بين الجيل الجديد والقيادة التاريخية للحزب التقدمي الإشتراكي، هو جاهلّ في الميدان إن لم نقل أكثر، والسيّء أن هؤلاء يبحثون في استقطاب الجموع دون أن يلتفتوا إلى حالات تسرّب أبناء المسؤولين باتجاه مجموعات الثورة.
لا بدّ أن الجيل الجديد يحبّذ الخطاب الإشتراكي القديم. لندع قضية الخلاف مع “حزب الله” جانباً ، ولو أن كثراً من المتسرّبين ينغمسون في مشروع “تشليح” الحزب لسلاحه. كثرٌ من هؤلاء توّاقون إلى إعادة إنتاج الخطاب الإشتراكي وفق المبادئ اليسارية، ولعلّ هؤلاء الشباب يبحثون عن يساريتهم الضائعة في بهو مصالح المنظومة السياسية الحاكمة، يبحثون عن حزبٍ نواته التغيير، فأضحى ركيزةً للطبقة السياسية الحاكمة وشريكاً لها في استثماراتها.
هذا على يسار الحزب التقدمي، ماذا عن يمينه؟ لقد نما الخصوم حتى كبروا وبات لهم موقعاً وحضوراً، وهناك من بين المراقبين من يرصدون بهدوء إنفلاش حالة وئام وهاب في صدر الشوف، وتغلغل المير طلال أرسلان لدى العائلات اليزبكية، ومن بينهم من يترحّم على زمانٍ كانت فيه الأمرة المطلقة لوليد بيك.
عملياً، النائب السابق وليد جنبلاط يعلم بتبدّل الأحوال من حوله، لكنه وعلى الأغلب يفضّل السير مع الموجة، أو يميل للريح نسبياً حتى يدعها تمرّ. يعلم أن عليه التزام التنازل تدريجياً كي لا يخسر جميع المكتسبات، ويدرك أن المُقبل على البلاد لن يكون سهلاً، في حال تسلّل النزاع إلى عمق بيئة الدروز. يريد تجميع ما تيسّر من أوراق، وفي نفس الوقت يريد أن ينأى بالدروز عن الإشتباك الداخلي الدائر وكذا المُقبل، وثمة من يقول أن وليد بك، يقبل التنازل في اللعبة السياسية إلى حدودٍ معينة لزوم المحافظة على الذات والمحيط، لذلك يرونه يهادن في أكثر من مكان ولو أن “جماعته” يشاؤون أن يسقطوا تفسيراً واحداً لهذه الحالة، وهي “التبريد” ومحاولة الإستيعاب وهي آلية تُتّبع عادة في مواضع الزعامات.
عموماً، لقد اختبرت المختارة خلال الإنتخابات الماضية نماذجاً من مدى تأثير مدّ خصومه الدروز من حوله، وقد كاد وئام وهاب حينها أن يخرق لائحته، وقد يفعلها في هذا الموسم، وقد يكرّرها غيره من ذوات الدم الثوري. يكيد وليد بك لهم جميعاً ويريد في هذا الموسم أن لا يكون تأثيرهم شديداً، لذلك يتعامل معهم بدهاءٍ وحنكة، ويفرّخ من حولهم جماعات وجماعات كلها تتبنّى مفهوم الثورة لكنها في النتيجة، أو كما يقال، ليست سوى أحصنة طروادة.
يعاين جنبلاط عن كثب مدى تطوّر الخصوم سياسياً، وغالباً أضحى هؤلاء يمتازون أو غالبيتهم، بنفس معاير العلاقات التي “ركّبها” جنبلاط في ما مضى. بوابة الإمارات لم تعد محصورةً به، وبوابة السعودية كذلك، فيما النافذة السورية باتت حكراً لغيره، وهكذا تمضي الحالة الجنبلاطية في محاولتها مهادنة الجميع تحت شعار “صون الجبل” رغم علمها أن الأثمان كبيرة، وتدرك جيداً أن توسيع “تفليت” لغة العلاقات مع الدول على مصراعيها ، تزيل عن الحالة الجنبلاطية امتيازها القائل بأن مفاتيح العلاقات تتموضع في المختارة.
في المقابل، الحال مع “حزب الله” ليس أشفّ حالاً. صحيح أن جنبلاط وكما يُنقل، يحاول أن يُهدىء الجموع في الجبل حيال العلاقة مع “حزب الله” ويتحجج بالضرورات الداخلية وسط نموّ خشيةٍ لديه من تسلّل الفتنة، لكنه في المقابل يبدو أنه ينتظر إشارةً معينة ما لـ”فتح الإشتباك” مع الحزب على مصراعيه. طبعاً جنبلاط يستفيد من الحالة الناشئة في وجه الحزب جبلاً ويتعامل معها باستحسانٍ غير منظور، ففي النتيجة ستعود عليه بالفائدة حين يُنجز استدارةً ما في لحظة سياسية ما.
بالنسبة إلى “حزب الله”، بات التعامل مع جنبلاط مختلفاً. صحيحٌ أن الحزب مازال يداريه لأسبابٍ وأسباب، لكنه لم يعد يراه بمثابة الممثّل المُطلق لبيئته ولا يفرق معه كثيراً وضعية جنبلاط فيها، ويعتبر منذ مدة أنه في حلٍّ من تمييز وتدليع جنبلاط، ليس لكون الأخير يتعامل بخشونة زائدة أحياناً مع الضاحية أو يتعمّد التقلّب الدائم تجاهها ويعمل على ابتزازها في مناسبات عدة، بل لأن الحزب بات يدرك أن في إمكانه دخول الجبل من أبوابٍ أخرى غير البوابات الإشتراكية. ولعلّ أدوار خصوم جنبلاط في هذا المجال واضحة، ولم يعد يخفى أن هؤلاء ساهموا وعلى فترات معينة في فتح قرى الجبل على نطاق واسع أمام الخدمات التي يقدمها الحزب، وكذا فعل الحزب حين فتح أبوابه على مصراعيها أمام ليس فقط الحلفاء، وإنما الجمعيات الأهلية الباحثة عن إفادةٍ في الجبل.
كل ذلك أزعج وليد جنبلاط دون شك، ولا بدّ أنه يعمل على التخفيف منه من دون الدخول في اشتباكات سياسية معينة. أحياناً، ثمة من يقول أن “البيك” يترك الحالة على نحو ما تحصل، عملاً بإتاحة الفرصة أمام استفادة الجميع، لكنه وحين يقرر، يستطيع إعادة “لمّ الجميع حوله”، ولا بدّ أن “حزب الله” وحلفاءه من الدروز، يعلمون حدود اللعبة جيداً في الجبل، ولو شاخ البيك.