السعودية من فرنسا إلى مصر: استعادة عروبة المنطقة
خالد البوّاب -أساس ميديا
لم تكن القمّة السعودية الفرنسية ختاماً لمرحلة تخصّ الملف اللبناني، بل إنّها محطة أوّلية في مسار طويل، يتمّ وضع أسسه بناء على البيان المشترك الصادر عن الجانبين، ويضع النقاط السياسية على الحروف اللبنانية وآلية التعاطي الدولي مع لبنان.
بعد القمّة ثمّة مؤشّران فرنسيان لا بدّ من التوقّف عندهما، مع ما يحملانه من دلالات تشير إلى المسار السياسي اللبناني في المرحلة المقبلة.
– المؤشّر الأوّل هو ما تكشفه مصادر دبلوماسية فرنسية لـ”أساس” عن استعداد وفد فرنسي يتألّف من أعضاء خليّة الأزمة المكلّفة بإدارة الشأن اللبناني، لزيارة الرياض ووضع الأسس السياسية التفصيلية بهدف التنسيق للمرحلة المقبلة بعد صدور بيان قمة مجلس التعاون.
– المؤشّر الثاني هو كلام السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو لبرنامج “عشرين 30” على قناة “LBCI”. فقد أشارت إلى تفاهم فرنسي – سعودي على “ضرورة تطبيق القرارات الدولية في لبنان، وتقديم مساعدات إنسانية للشعب اللبناني لا تمرّ بالدولة اللبنانية”. وهذه المساعدات هي عبارة عن مرحلة أوّليّة، فيما المرحلة الثانية ستكون مرتبطة بمتغيّرات سياسية يُفترض بلبنان أن يتّجه نحوها من خلال تطبيق الإصلاحات المطلوبة دوليّاً. يعني هذا الكلام أنّ فرنسا التزمت بالشروط السعودية حيال المقاربة اللبنانية، مع تأكيد وجوب حصر السلاح بيد مؤسّسات الدولة الرسمية، ووقف النهج السياسي الذي يفرضه حزب الله على السياسة الخارجية للبنان. وهو موقف يذكّر بالتكامل الفرنسي السعودي الذي كان قائماً في العام 2003، وتعزّز أكثر مع الوصول إلى القرار 1559، ثمّ بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
بعد القمّة الفرنسية ونتائجها الواضحة، أجرى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان جولة خليجية كانت واضحة الأهداف والمعالم، من خلال تثبيت موقف السعودية من لبنان، وتأكيد خليجي كامل بالوقوف خلف المملكة في هذا الملفّ. وهو موقف يحمل رسائل متعدّدة موجّهة إلى القوى الإقليمية والدولية:
1- الرسالة الأولى هي تثبيت الموقف الخليجي الموحّد خلف الموقف السعودي، والتزام كلّ دول الخليج بالسياسة السعودية العريضة في لبنان أو غيره.
2- الرسالة الثانية هي القول لكلّ القوى الإقليمية والدولية إنّه على الرغم من المساحات التي تمتلكها دول الخليج في انتهاج خطوطها السياسية، إلا أنّها جميعاً تلتفّ في النهاية حول الموقف السعودي.
3- الرسالة الثالثة موجّهة إلى الغرب بأنّ عليه التعاطي مع دول الخليج كمجموعة واحدة لا أحد يمتلك محاولات الرهان على الانقسامات فيما بينها. فسوء العلاقة مع السعودية يعني سوء العلاقة مع كلّ دول الخليج، ولذا على تلك القوى الدولية مراجعة حساباتها.
أين مصر من هذا الحراك؟
بعد هذه الرسائل، حطّ وزير الخارجية المصري في الرياض تأكيداً على التكامل بين مصر والسعودية، ولوضع سياسة واضحة المعالم للمنطقة ككلّ، وللتشديد على الثقل التاريخي والبشري والجيوستراتيجي لمصر، الذي من شأنه تغيير الكثير من المعادلات في المنطقة، خصوصاً في ظلّ أيّ مقترح قائم على الطروحات السياسية التي يتمّ تقديمها.
يوحي ذلك بإعادة التأسيس لحقبة سياسية جديدة مشابهة للحقبات التاريخية التي كانت تتصدّر خلالها المملكة العربية السعودية دول مجلس التعاون وتحالف مع مصر لتنصر قضايا العرب وتحتضنها وتفرض معادلاتها وموازناتها، منذ رعاية حلّ الدولتين في فلسطين، وصولاً إلى المبادرة العربية للسلام التي تقدّم بها الملك عبد الله بن عبد العزيز.
حالياً تمرّ المنطقة في ظروف ومتغيّرات استراتيجية، تستعيد فيها السعودية كلّ الأوراق لإعادة فرض نفسها لاعباً أساسيّاً في المنطقة وسياستها، وباعتراف ماكرون شخصيّاً. والتكامل الخليجي المصري سينسحب تكاملاً في المزيد من المحطات السياسية مستقبلاً، وسيكون له أثر كبير في تحصين المناعة العربية في دول أصبحت متخلخلة أو على حافّة الانهيار، وهو ما يعني إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية، بدون السماح لإيران بالاستثمار في مبدأ إرساء الانهيار والمراكمة عليه.
يذكّر هذا التحرّك السعودي المصري بالتكامل بين البلدين أيّام الراحليْن الملك عبد الله والرئيس حسني مبارك، الذي نتج عنه في لبنان مبادرة “السين السين” واستعادة الدور العربي الكامل في تلك الفترة. وهنا تجلّت فكرة الملك عبد الله بضرورة استعادة سوريا من الحضن الإيراني، وكانت قائمة على فلسفة بعيدة المدى ترتكز على ضرورة منع إيران من التغلغل أكثر في الجسد العربي.
مبادرة “السين السين” تكاملت حينئذٍ مع مبادرة المملكة لعقد “اتفاق مكّة”، وهو اتفاق المصالحة الفلسطيني الفلسطيني بين حركتيْ فتح وحماس رغم تراجع حماس لاحقاً وعودتها إلى الحضن الإيراني.
في تلك الفترة، استشعرت إيران هذه المخاطر، فأقدمت على قلب الطاولة على هذا المسار العربي، من خلال الانقلاب الذي نُفِّذ في لبنان على حكومة سعد الحريري في العام 2011، وكان من منفّذيه نجيب ميقاتي، وأدّى إلى ضرب المبادرة العربية وبداية الابتعاد اللبناني عن العمق العربي. ثمّ نُفِّذ الانقلاب على “اتفاق مكّة” الخاص بفلسطين من خلال حرب غزّة عام 2012.
اليوم تستعيد السعودية مع مصر المبادرة في المنطقة.
حتماً ستحاول إيران أن تكون بالمرصاد، فيما المطلوب من اللبنانيين أن يعوا دقّة الحسابات الاستراتيجية ذات المدى البعيد وألا يكرّروا الأخطاء الناجمة عن المطامع الشخصية والمصلحيّة، والتي اقتُرفت منذ نهاية الانتخابات النيابية في العام 2009، وصولاً إلى انقلاب نجيب ميقاتي الذي كان المقدّمة لِما أوصل لبنان إلى ما يعيشه اليوم.