منذ الصيف الماضي، تاريخ المقابلة التي نشرها موقع «العربي» مع القاضي طارق البيطار، لم يتوقّف الأخير عن التواصل مع العالم البعيد عن نطاقه التخصصي. لا يبدو أن للرجل مشكلة في التحدّث عما يقوم به وعمّا يحيط بعمله، ليس مع زملاء أو أصدقاء أو حقوقيين، بل مع إعلاميين ومستشارين وموظفين… أما «الأجانب»، من السفارات العربية والغربية، فيبرّر اتصالهم به أو اتصاله بهم، بمتابعة ما يخص رعاياهم الذين تضرّروا من انفجار المرفأ. لكن، يبدو أن القاضي الشاب تمرس في اللعبة الإعلامية. فهو يتحدث بطريقة خاصة مع أهالي الضحايا، ويعتمد لغة أخرى مع أهالي الموقوفين على ذمة التحقيق. حتى أنه بات خبيراً في البعث برسائل إلى هذه الجهة أو تلك. وهو، في كل ما يفعله، إنما يستند إلى قناعة راسخة لديه بأنه يتمتع بحصانة تمنع أي مخلوق على وجه الأرض من تعريض موقعه الوظيفي ومهمته إلى الخطر. وعندما يحاججه كثيرون، يرد على قاعدة: ارتاحوا. لا شيء يؤثر أو سيؤثر في ما أقوم به وفي ما سأنتهي إليه من نتائج!
مشكلة طارق البيطار تتفاقم يوماً بعد آخر. ولا يتعلق الأمر بطريقة عمله فقط. يعيش الرجل في عالم خاص. صحيح أن المسؤولية الملقاة عليه كبيرة جداً، لكن المشكلة ليست في حجم الثقة المعطاة له، بل في طريقة مقاربته لهذه المسؤولية. والفارق شاسع بين أن يشعر المرء أنه مسؤول فيكون على دراية وفطنة وحكمة في كل خطوة يقوم بها، وبين أن يتصرف على أن كلمته لا تردّ. وهنا تبرز «الأنا» التي لا يمكن فصلها عن سلوك البيطار.
لا علاقة لأحد بالحياة الشخصية للمحقق العدلي. لكن هناك أسئلة حول المستجدّ الذي يجعله حريصاً على عدم عودة أحد إلى ماضيه. من جهة، يتصرف على أنه «الشخصية اللبنانية الأولى». لكنه يرفض أن يبحث أحد في طبيعة هذه الشخصية. هو يرفض، مثلاً، الحديث عن أنه كان عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي عندما كان يدرس الحقوق في الجامعة. ولا يرغب في الإشارة إلى موقف عائلته ونشاطها في مواجهة «اليمين المسيحي» في الحرب الأهلية، ولا عن مشاركة أفراد من عائلته في قتال الاحتلال الإسرائيلي في العام 1982. كما يرغب بتجنب الحديث عن موقف عائلته ضد الحرب التي شنت ولا تزال ضد سوريا. ويزعجه كثيراً إن استعاد أحد ما واقعة أنه امتنع فجأة عن الزواج من سيدة لأنها مسلمة، قبل أن يعود للحديث عن رفضه المطلق لكل أنواع الفكر الديني، مع الاعتزاز بمسيحيته.
البيطار يؤكد أن عمله لن يقف عند أي ترهيب أو تهديد. لكنه يريد من الجميع عدم الإشارة إلى عائلته، ويلمح إلى أنه قد يكون مضطراً لتسفيرها للإقامة في الخارج إن شعر بأن هناك خطراً عليها. كما أنه لا يريد لأفراد من عائلته الإدلاء بأي رأي في ما يقوم به، ويريد منهم الابتعاد عن أي نقاش حول الملف، حتى لا يتعرضوا للخطر، وكأنه يجزم بأن أهله وإخوته وأقرباءه يبصمون على ما يقوم به.
ينفي البيطار حديثاً صحافياً نقل عنه، لكنه لا ينفي أنه يتواصل مع إعلاميين. وهو، ربما، يفترض أن مكالمات هاتفية تمتد لوقت طويل لا تعني اجتماعاً مباشراً مع صحافيين. يدافع عن مبدأ التحفظ، من دون أن يلتزم به. ولا يمانع (اقرأ: بل يطلب) من «أصدقاء»، قضاة ومحامين، التواصل مع هذا وذاك لتوضيح الموقف وطلب عدم مهاجمته. ينفي أن يكون عمله قائماً على المحاباة أو المعاداة. لكن لدى سؤاله عن رأيه في سبب وقوف أميركا والغرب وكل خصوم المقاومة خلفه، يردّ: «ربما يريدون معرفة الحقيقة. وقيادة حزب الله ستكتشف لاحقاً أنني كنت على صواب. أما الموقف من المحاور في العالم، فأنظر إلى الأمر من زاوية خيارات شخصية. ولو خُيّرت بين العيش في أميركا أو إيران، سأختار أميركا»!
يقول البيطار إن الجانب التقني بات واضحاً لديه بنسبة عالية. لكنه يرفض الكشف عن النتائج، علماً أنه يدرك أن من حق وزارة الداخلية، مثلاً، أن تصدر بياناً تشرح فيه ظروف الانفجار وتحسم في ما إذا كان ناجماً عن عمل إرهابي أو خطأ تقني. وهو يستند في حكمه، عملياً، إلى ما يصله من تقارير فنية وتقنية تجريها جهات غير قضائية. لكن النتيجة، أنه اتخذ موقفاً مانعاً لنشر الجوانب التقنية التي لا تحتمل رأياً أو تفسيراً قانونياً أو قضائياً. وهو ظل مصراً على إعادة محاكاة الانفجار متى صار فرع المعلومات في قوى الداخلي جاهزاً. وفوق كل ذلك، يرفض السماح لأحد بشرح حقيقة ما حصل، حتى ولو أن هذا الشرح لا علاقة له بالتحقيق الذي يستهدف توضيح من المسؤول عما حصل. وهنا، يحار المرء في تفسير موقفه: هل هو ساذج إلى حد أنه لا يعرف و لا يدرك حجم الاضطرابات والتوترات التي يسبّبها عدم كشف كيفية حصول الانفجار، على رغم علمه بالاستثمار السياسي الكبير لهذا الغموض؟

من يعرفه عن قرب، أو من تابع عمله حتى الآن، يقول إنه ساذج. لكن الأمر يتحول إلى ما هو أبعد لدى التدقيق في طريقة تعامله مع ملف الموقوفين أو مع أهالي الضحايا. فهو يتصرف باستنسابية عالية في معالجة ملف الموقوفين. يتحدث مع أهاليهم بلغة فوقية ويمارس وصاية أخلاقية تثير الغثيان. وبعدما وصلته معلومات عن «احتمال واقعي»، بحسب تعبير جهة مختصة، بأن بعض الموقوفين قد يموتون في السجن مرضاً أو انتحاراً، رفع منسوب الإنسانية في لهجته مع أهالي الموقوفين، وبات يعد بإطلاق سراح متدرج لبعضهم، ويكرّر بأن كل الموقوفين ليسوا «مجرمين» بل هم أقرب إلى «المقصرين»، على رغم أن هناك من يدعو إلى مراقبة دقيقة لمن سيطلق سراحهم ومن سيبقى قيد الاحتجاز.
أما بالنسبة إلى أهالي الضحايا، فعندما كان هؤلاء موحّدين خلف «قيادة الثورة»، كان يرحّب بهم ويخطب فيهم. وعندما اعترض بعضهم على دوره، اعتبرهم «مجرد مساكين تعرضوا للضغط»، وصار يهمل من يريد ويهتم بمن يريد. وعند أي تشكيك في سلوكه المهني، ينفعل ويرد: ما حدا بيقدر يشيلني من موقعي!
هناك، أيضاً، طور آخر من السذاجة عند الرجل (سنظل نعتبرها سذاجة حتى إشعار آخر). إذ لا يعتبر نفسه مسؤولاً عن أي اضطراب سياسي أو أمني يحصل في البلاد نتيجة عمله. ويعفي نفسه من أي مسؤولية أخلاقية أو ربما أكثر، عن جريمة قتل سبعة مواطنين في الطيونة على يد مسلحين من «القوات اللبنانية» وعناصر من الجيش اللبناني. والسذاجة، هنا، تتعلّق بنقص في الوعي السياسي لوقائع لبنان، وهي وقائع قاسية كان يفترض به التعلم منها ولو كان يرفضها. مثل أن قتلة مسؤولين عن دماء عشرات الألوف من اللبنانيين يقودون البلاد اليوم، وهي وقائع جعلت عائلة الرئيس رفيق الحريري تقول ذات مرة: إذا كان ثمن العدالة دمار لبنان فنحن نريد الحقيقة لا العقاب! ثم إلا يفكر للحظة واحدة كيف عليه التصرف إذا كان نصف اللبنانيين على الأقل لا يثقون بما يقوم به؟
وأكثر من ذلك، فالقاضي المتحمس لا يرى نفسه شريكاً في أكبر جريمة يتعرض لها القضاء في لبنان. يتمسك بحصانة «إلهية»، ويتجاهل أنه تسبب بأقسى انقسام إداري ومهني وطائفي ومذهبي داخل السلطة القضائية. هل يسأل نفسه عن سبب اقتصار داعميه على القضاة المسيحيين فقط، أو لماذا يهرب قضاة من مناقشة ملفات تخص قضيته تحت ضغط السفارات والعائلات والشارع. وفوق ذلك، يقرر البيطار، من هو المفيد ومن غير المفيد في القضاء والأمن والإدارة أيضاً. يثق بهذا الجهاز الأمني ولا يثق بغيره، ويستمع إلى رأي هذا القاضي وليس إلى غيره، ويلتفت إلى رأي هذا القسم من المحامين لا إلى غيرهم، يتصرف كأنه غير مسؤول يجب أن يحاسب في يوم ما على كل ما تسبب به لهذه البلاد باسم الرب الذي أرسله لإنقاذنا من أنفسنا قبل أن ينقذنا من أعداء لبنان والإنسانية.
والجديد في «سذاجة الرجل»، حتى لا نصل إلى أبعد مما هو عليه الأمر، هو أنه قرر الاستجابة لنداءات المسؤولين وأهالي الضحايا والموقوفين، وسيعمل على إنجاز القرار الظني في غضون ثلاثة شهور، أي عشية الانتخابات النيابية المقبلة!
لنقف هنا قليلاً،
ينفي البيطار أن يكون على تواصل مع سياسيين أو ديبلوماسيين، مباشرة أو غير مباشرة. لكنه يقول إنه يكره الطبقة الحاكمة، وإن ما يقوم به جزء من عملية إنقاذ لبنان من هذه العصابات، وإن ملفه سيقود إلى تخليص لبنان من المنظومة التي تحكمه وتسرق ثرواته وتصادر قرار شعبه، وأنه مرسل من الرب لإنقاذ هذا الشعب المسكين…
ينفي البيطار، أيضاً، أن يكون عمله مرتبطاً بأجندة سياسية، وهو غير معني إذا ما قرر طرف ما استثمار ما يقوم به. لكنه يعلم أن توقيت القرار الظني سيكون مناسبة لإشعال البلاد من جديد، خصوصاً أن مقدمات ما يقوم به تقود إلى خلاصة وحيدة وأكيدة: طارق البيطار سيتهم فريقاً بعينه ممن مروا على الحكم بالمسؤولية عن الإهمال والتقصير الذي أدى إلى وقوع الجريمة. وعندما يقول للإعلاميين إنه في حال فشل في إجراء كل التحقيقات التي يريدها، فسيورد أسباب شكوكه في القرار الظني، يضيف بشكل واضح: سأترك الفارين من عدالتي والرافضين الانصياع إلى قراراتي يواجهون عدالة الرأي العام!
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن على الساذج إياه أن يعود إلى قراءة أحداث العقدين الأخيرين من الحياة السياسية اللبنانية، وأن يستعين بمن يفسّر له الوقائع السياسية المرتبطة بكل ما جرى منذ اغتيال رفيق الحريري إلى عدوان تموز 2006 ثم أحداث أيار 2008، فالاضطرابات التي رافقت الحرب على سوريا، وصولاً إلى الموجة الجديدة المواكبة للانهيار الاقتصادي وحراك تشرين عام 2019، والفشل السياسي الذريع للنظام السياسي في إدارة مؤسسات البلاد، والتدخل غير المسبوق لعواصم العالم في تفاصيل الحياة اليومية للناس، إلى كل أنواع الترهيب الذي تمارسه أميركا وأوروبا والسعودية وأنصارهم على اللبنانيين في أكلهم ودوائهم وأموالهم… يجب أن يجد البيطار من يعيد تعليمه الدرس السياسي الأكثر أهمية: السذاجة في السياسة أشد وطأة من الجهل في القانون وأكثر إيلاماً من الفساد والجريمة!